
إنما الهدى هدى الله
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [سورة المائدة 51]، وقال سبحانه: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } [سورة المائدة 67]، وقال سبحانه:
{... إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} [سورة المنافقون 6 ]، وقال سبحانه: {... فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [سورة الأنعام 144]، وقال سبحانه: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [سورة القصص 50]
وقال سبحانه: {... إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [سورة الزمر 3 ]، وقال سبحانه: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [سورة الأحقاف 10]، وقال سبحانه: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين } [سورة يونس 13 ]، وقال سبحانه: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } [سورة القصص 56 ].
قال ابن كثير في "تفسيره":
"يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد لا تهدي من أحببت أي ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء [البقرة: 272] وقال تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [يوسف: 103] وهذه الآية أخص من هذا كله، فإنه قال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وقد ثبت في الصحيحين إنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا طبعيا لا شرعيا ، فلما حضرته الوفاة وحان أجله، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام. فسبق القدر فيه واختطف من يده، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة التامة.قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه، وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك )، فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} [التوبة: 113] وأنزل في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} أخرجاه من حديث الزهري ، وهكذا رواه مسلم في صحيحه، والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (يا عماه قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة) فقال: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك، لا أقولها إلا لأقر بها عينك، فأنزل الله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وقال الترمذي : حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان، ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان : حدثني أبو حازم عن أبي هريرة فذكره بنحوه، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله ، فأبى عليه ذلك، وقال: "أي ابن أخي ملة الأشياخ، آخر ما قاله وكان هو على ملة عبد المطلب.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله تعالى- في" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " يخبر تعالى أنك يا محمد -وغيرك من باب أولى- لا تقدر على هداية أحد ، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد الله سبحانه تعالى، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه ، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله.وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} فتلك هداية البيان والإرشاد، فالرسول يبين الصراط المستقيم، ويرغب فيه، ويبذل جهده في سلوك الخلق له، وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان ، ويوفقهم بالفعل، فحاشا وكلا".
قلت: فالهداية المنفية في هذه الآية هي هداية التوفيق والإعانة والتي يسميها العلماء هداية التوفيق والإلهام ، ومعناها: أن الله عز وجل يجعل في قلب العبد من الإعانة الخاصة على قبول الهدى ما لا يجعله لغيره بحيث يقبل الهدى ويسعى فيه وهي نفاها الله سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة: 272]، وقد كان أبو طالب من أنفع قرابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- له ومع ذلك لم يستطع أن يهديه لأن هذه الهداية لله وحده، فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وقال سبحانه: {وما توفيقي إلا بالله} [هود: 88]، هذا حصر التوفيق من الله عزوجل دون ما سواه ، لهذا نفاها ربنا عزوجل عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [القصص: 56]، فنفى الله تعالى في هذه الآية عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم هذه الهداية وجعلها له سبحانه ، مع إثباتها لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله عزوجل: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ...} [الشورى: 52 53] فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يهدي بمعنى : أنه يدل ويرشد ويعلم، إلى آخر هذه المعاني، وليس بيده هداية التوفيق والإعانة، إنما هذه لله عز وجل وحده فهو الذي يوفق ويعين العبد ويصرف عنه السوء ، ويعينه على الطاعة، ويصرف عنه الشياطين حتى يهتدي بمعنى حتى يستقيم على أمر الله عز وجل ، لأن هدى الناس المنفي عنه صلى الله عليه وآله وسلم هو الهدى الخاص بالله عز وجل لأن التوفيق بيد الله وحده ، وإلى هذين المعنيين ترد كل الأعمال المسندة إلى العبد ، فإن المهتدي هو من هداه الله وبهدي الله اهتدى ، وبإرادة الله تعالى كان ذلك، لا أنه مستقل بالهدى، فالبشر هيأهم الله عز وجل، وجعل فيهم القابلية للهدى كما قال تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وقال سبحانه: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 3]
فمن تسبب من البشر في كسب الهداية، وجاهد نفسه في حصولها رزقه الله هداية التوفيق كما قال تعالى : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: من الآية 69].
وقد ذكر العلماء أسبابا للهداية من أهمها:
1 - الإيمان بالله، قال تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن: من الآية 11].
2 - المتابعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {واتبعوه لعلكم تهتدون} [لأعراف: من الآية 158]، وقال سبحانه: {وإن تطيعوه تهتدوا} [النور: من الآية 54].
3 - الحرص على تعلم الوحي والعمل بما علم منه، قال تعالى: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما } [النساء: 66-68].
4 - المواظبة على العبادات من صلاة وزكاة وصوم وغيرها، قال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } [التوبة: 18].
5 - حمد الله وشكره على نعمة الهداية، قال الله تعالى: { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } [إبراهيم: 7] وقال تعالى عن عباده الصالحين: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } [الأعراف: 43] فحمدوا الله وردوا الفضل له سبحانه، وهكذا ينبغي أن تكون حال كل مهتد.6 - دعاء الله تبارك وتعالى بالثبات على هذا الهدى حتى الممات ، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يدعو : "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
والخلاصة أن الهداية نوعان: عامة وخاصة، فالأولى: هي هداية الإرشاد، وهي عامة لجميع الناس قال تعالى عن القرآن: {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185]، وقال تعالى عن ثمود: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [فصلت: 17].
والثانية: هي هداية التوفيق، وهي خاصة للمؤمنين بأن يوفق الله المرء للعمل بما علم ، مثاله: قوله تعالى {هدى للمتقين}، وقوله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44].
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
كتبه أحوج الناس لعفو ربه
أبو سامي العبدان
حسن التمام
الثاني من ربيع الأول 1437 من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إرسال تعليق