دفاع عن الملك الصالح النجاشي رحمه الله تعالى ورضي عنه

  


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإنه مما لا يجوز اتهام رجل مسلم بغير بينة، فكيف برجل شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح، وصلى عليه صلاة الغائب، وقد اتهم النجاشي بأنه لا يحكم بما أنزل الله، والذي دفعهم اتهامه بهذه التهمة هو محاماتهم عن الطواغيت الذين استبدلوا شريعة الله بالقوانين الوضعية مع الفرق كبير جدا جدا بينه وبين طواغيت العصر الملتزمون استبدال الشريعة، ولا شك أن هذا هو الضلال العريض فكيف يُرمى رجل مسلم مشهود له بالصلاح والعدل من سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم بهذه التهمة الخطيرة؟!! ذلك أن إسلامه كان في أول البعثة، ولم تستقر بعدُ أحكام الشريعة، ومن المعلوم أن الفترة المكية لم تنزل فيها كثير من الحدود، ولا يخفى على أحد التدرج في التشريع، وأن القرآن كان يتناول كل مرحلة بما يناسبها، ولم يأت النهي عن كثير من المحرمات في العهد المكي، كتحريم الخمر، والربا، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر" ([1]).
قال النووي في "شرح مسلم" 11/ 5:
"قال القاضي وغيره: تحريم الخمر هو في سورة المائدة وهي نزلت قبل آية الربا بمدة طويلة، فإن آية الربا آخر ما نزل أو من آخر ما نزل، فيحتمل أن يكون هذا النهي عن التجارة متأخرا عن تحريمها، ويحتمل أنه أخبر بتحريم التجارة حين حرمت الخمر، ثم أخبر به مرة أخرى بعد نزول آية الربا توكيدا ومبالغة في إشاعته، ولعله حضر المجلس من لم يكن بلغه تحريم التجارة فيها قبل ذلك، والله أعلم".
وإن بعض العبادات لم تشرع إلا في المدينة كصيام رمضان، واستقبال البيت الحرام، والقتال في سبيل الله، وبعضها تأخر جدا كحج بيت الله الحرام، وإن كثيرا من التشريعات لم تنزل إلا في المدينة النبوية وفي فترة متأخرة، ومن المعلوم أن النجاشي رحمه الله تعالى قد توفي قبل اكتمال الدين، فقد صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلى، وكبر أربع تكبيرات".
ومن المعلوم أن النجاشي مات بأرض الحبشة.
قال الحافظ في "الفتح" 7/ 191:
"وإنما وقعت وفاته بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل سنة ثمان قبل فتح مكة كما ذكره البيهقي في "دلائل النبوة".
قلت: وقد اختُلف في زمن إسلامه فمن أهل العلم من يرى أن ذلك بعد البعثة وقبل الهجرة إلى المدينة، أي مع هجرة المسلمين إلى الحبشة في حدود السنة الخامسة من البعثة، ومنهم من يرى أن إسلامه قد تأخر إلى قرابة العام السادس من بعد الهجرة النبوية إلى المدينة، ثم الجزم بأنه لم يحكم بما أنزل الله يحتاج إلى دليل قاطع، ومن المستبعد جدا أن يصف النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا لا يحكم بما أنزل الله بأنه رجل صالح ([2])، ومن يقرأ سيرة النجاشي يتبيّن له أنه كان فيه صلابة في دينه، فقد كتب النجاشي رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا لرسالته التي أرسلها إليه يدعوه فيها إلى الإسلام، فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبي الله بأريحا بن الأصحم بن أبجر فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق" ([3]).
فهذه الرسالة فيها الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما نزل عليه من ربه، وبالإيمان بما نزل في حق عيسى عليه السلام، وأنه اهتدى إلى الإسلام، وبايع على ذلك، وهو يعلن استعداده للهجرة وترك الملك الذي هو فيه إن شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وقد يستفاد من هذه الرواية أنه لم يطاوعه على الإسلام أحد من قومه في بادئ الأمر، لكن ليس فيها أنه لم يحكم بشريعة الله، وبين الأمرين فرق، والقول إنه لم يحكم بشريعة الله يلزم منه أنه حكم بغيرها، لأنه ملك، والملك من شأنه أن يحكم، فإما أن يحكم بشريعة الله وإما أن يحكم بغيرها.
وذكر الحيدر آبادي الهندي في "مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة" (ص 106- 107) أن النجاشي أرسل مع ابنه أريحا ستين رجلا من أهل الحبشة ([4]).
فهذا يدل على أن هناك من استجاب له من قومه فأسلموا، وذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 46/ 150-151، وابن القيم في "الهدي النبوي" 3 / 606 - في بيان قدوم عمرو بن العاص على ملك عمان بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، قال عمرو بن العاص -: "فسألني أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه، قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب، قلته: ما كذبت وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي، قلت: بلى.
قال: بأي شيء علمت ذلك؟
قلت: كان النجاشي يخرج له خرجا فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال: لا والله، لو سألني درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له: يناق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين دينا محدثا؟
قال هرقل: رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ما أصنع به والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع".
ولما قال النجاشي لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله اذهبوا، فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم: الآمنون – من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرا ذهبا، وأني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة: الجبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في، فأطيعهم فيه..." ([5]).
فالنجاشي - رحمه الله - لم يهتز أمام تناخرهم، بل تحداهم بقوله: وإن تناخرتم والله، ثم أمَّن الصحابة ووضع على من سبهم عقوبة وهي الغرامة، وبين أنه لا يخاف الناس ولا يطيعهم في الله تعالى، أفمن كان هذا حاله يجوز أن ينسب إليه بغير بينة أنه ترك بعض ما أمر به طاعة للناس أو خوفا من نقمتهم؟!!
وقال النجاشي: "والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود، فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك، فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس فيَّ حين رد عليّ ملكي، فأطع الناس في دين الله، معاذ الله من ذلك" ([6]).
فلم يأبه بما قاله له عظماء الحبشة من خلعهم له، وما رده ذلك عن التمسك بالحق وإعلانه، بل أقسم بالله أنه لا يقول في عيسى عليه السلام غير مقالته الأولى أبدا، وأنه لن يطيع الناس في دين الله.
وقال النجاشي: "يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم، أنزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضِّئه" ([7]).
إن في هذه الرواية يواجه النجاشي أهل الحبشة والقسيسين والرهبان ويجهر بالاعتقاد الصحيح في عيسى عليه السلام، ويشهد أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله وأنه الذي جاءت صفته في الإنجيل، وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم، وهذا يدل على صلابة النجاشي في دينه، وأنه جاهر بعقيدته ولم يرده عن ذلك مخالفة المخالفين له، فصرّح بما يراه حقا، ووفر الملاذ الآمن للصحابة المهاجرين، ولم يسمح لأي أحد بإيذائهم، بل جعل غرامة على كل من يؤذيهم، فقال لهم بعد ما سمع قولهم في عيسى ابن مريم عليه السلام: "أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم! فنادى مناد: من آذى أحدا منهم فاغرموه أربعة دراهم، ثم قال: أيكفيكم؟ قلنا: لا، فأضعفها" ([8]).
وهذه المواقف الثابتة الجريئة منه تقود الباحث إلى التريّث وعدم التسرّع في القول بأنه لم يحكم بشرع الله.
وقد دل الدليل الصحيح أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة كانت تمر عليهم مدة من الزمن قبل أن يبلغهم ما نزل من الدين، بل وربما لم يعلموا به إلا عند عودتهم من الهجرة، فعن عبد الله بن مسعود قال: "كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: إن في الصلاة شغلا" ([9]).
قال شيخ الإسلام في "شرح العمدة" 2/ 559-560:
"وقد ذكر عن عطاء وقتادة أن النجاشي كان يصلي إلى بيت المقدس إلى أن مات، وقد مات بعد نسخ القبلة بسنين متعددة، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقي في أنفس الناس لأنه كان يصلي إلى غير الكعبة حتى أنزل الله هذه الآية، وهذا - والله أعلم - بأنه قد كان بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس فصلى إليه ولهذا لم يصل إلى المشرق الذي هو قبلة النصارى، ثم لم يبلغه خبر النسخ لبعد البلاد فعذر بها كما عذر أهل قباء وغيرهم، فإن القبلة لما حولت لم يبلغ الخبر إلى من بمكة من المسلمين، ومن كان بأرض الحبشة من المهاجرين: مثل جعفر وأصحابه ومن كان قد أسلم ممن هو بعيد عن المدينة إلى مدة طويلة أو قصيرة، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم بإعادة ما صلاه إلى بيت المقدس قبل علمه بالناسخ، وما ذلك إلا لأنه معذور لعدم العلم وأنه كان متمسكا بشريعة فلما لم يبلغه نسخها لم يثبت في حقه حكم النسخ، لأن الله لا يكلفه علم الغيب فكذلك من اجتهد واستفرغ وسعه أو عميت عليه الأدلة لا يكلفه الله إلا وسعه".
فالقائل: إن النجاشي رحمه الله لم يحكم بشرع الله، يلزمه أن يبين ما التشريع الذي فُرض على المسلمين وبلغ النجاشي ولم يعمل به، فلا يجوز أن ننسب لمثله أنه لم يحكم بما وجب عليه من دين الله تعالى بدون خبر ولا رواية لأن هذا من الرجم بالغيب لا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أمر بالاستغفار له، ووصفه بأنه أخو لأصحابه، فقال: "استغفروا لأخيكم" ([10]) - يعني النجاشي - ووصفه بأنه رجل صالح، فقال: "مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة" ([11]).
وإن النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعوته لم يكن يطلب من الناس أكثر من التوحيد وبعض مكارم الأخلاق، بل كان يأمر بعض من يأتي إليه في مكة مؤمنا أن يكتم إيمانه والرجوع إلى أهله، وأن يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رآه قد ظهر وغلب من خالفه، وحديث إسلام عمرو بن عبسة أكبر شاهد على ذلك، ففيه أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: "إني متبعك، قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني. قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم على نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني قال: نعم أنت الذي لقيتني بمكة" ([12]).
ثم إن كثيرا من الأحكام التي نزلت في المدينة كانت مقررة عند أهل الكتاب، فيما أنزل الله في كتبه السابقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 16/ 44:
"كثير من شرائع الكتابين يوافق شريعة القرآن".
وأهل الكتاب مأمورون في الحكم بينهم بما أنزل الله في كتبه لهم، والحكم فيهم بذلك لا يمثل لهم خروجا عن الدين، فحكم النجاشي رحمه الله تعالى بينهم بشريعة القرآن التي توافق ما في كتابهم لا يكون مستغربا منه، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، فكل هذه الحدود موجودة في التوراة، وهم مأمورون بالحكم بها، ثم قال الله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ . وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وإن حد الرجم للزاني والزانية موجود في التوراة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعا، فقال لهم: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه، قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له ابن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تحت يده، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال ابن عمر: فرجما عند البلاط، فرأيت اليهودي أجنأ عليها" ([13]).
فأهل الكتاب اليهود والنصارى مأمورون في الحكم فيما بينهم بما أنزل الله على رسله في التوراة والإنجيل، والنجاشي رحمه الله تعالى قبل أن يسلم كان نصرانيا متبعا للإنجيل، فليس غريبا أن يحكم النجاشي بعد إسلامه بين قومه بحكم القرآن فيما لم يظهر مخالفته لحكم التوراة والإنجيل، فيكون هو حاكما بما أنزل الله ولا يتفطن النصارى لذلك، لموافقته لما عندهم، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن النجاشي كان حاكما عادلا، فقال لأصحابه حاثا لهم على الهجرة إلى أرض الحبشة: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" ([14]).
ولا يكون بهذه المثابة وهو يحكم بغير ما يجد في كتاب الله التوراة والإنجيل المأمور باتباعه.
الخلاصة: أن النجاشي رحمه الله تعالى قد أظهر الإسلام والموافقة على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما قاله الصحابة في حضرته، ولم يبال بمخالفة أركان دولته له، ولم يكن ينقاد لأحد منهم، وكان يعمل بما بلغه من أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما لم يبلغه فهو معذور فيه، ولم تكن شرائع الدين قد اكتملت، وهو قد مات رحمه الله تعالى قبل أن يكتمل الدين، فقد أدى ما وجب عليه من العمل بما بلغه من الشرع حتى لقي ربه، وما خالف ذلك من الأقوال فلا دليل عليه.
ثم إن قياس الحكام الذين بدّلوا الشريعة بما وقع للنجاشي لمن القياس الفاسد، والرأي الكاسد، ذلك أن النجاشي لم يكن يحكمهم بشرائع الإسلام ثم بدلها إلى شرائع الكفر، فقياسه على الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله لمن أبطل الباطل، فإن الأحكام قد استقرت، وأكمل الله تعالى الدين، وأظهره على الدين كله، وتعهّد بحفظه، فلا يجني جان إلا على نفسه.
شبهة والرد عليها:
جاء في "البداية والنهاية" 2/ 77 لابن كثير "قال زياد عن محمد بن إسحاق: حدثني جعفر ابن محمد عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى! قال: فكيف أنتم بسيرتي فيكم؟ قالوا خير سيرة، قال: فما بكم؟ قالوا فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبده ورسوله، قال؟ فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال النجاشي- ووضع يده على صدره على قبائه -: وهو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا، وإنما يعني على ما كتب، فرضوا وانصرفوا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له".
قلت: هذه الرواية ضعيفة، إسنادها منقطع، فأين شهد أبو جعفر هذه القصة؟! بينه وبين زمانها مفاوز.



____________




[1] - متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.


[2] - متفق عليه من حديث جابر، ولفظه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة".


[3] - ينظر "دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 309-310، و "السيرة النبوية لابن كثير" 2/ 43، و"البداية والنهاية" 3/ 84.


[4] - ينظر "تاريخ الطبري" 2/ 132، و "تاريخ ابن خلدون" 2/ 37، كذلك "أسد الغابة".


[5] - إسناده حسن - أخرجه أحمد 1/ 201-203 و 5/ 290-293، واسحاق بن راهويه (1835)، وابن خزيمة (2260) مختصرا، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 115، وفي "دلائل النبوة" (194)، والبيهقي 9/ 144، وفي "دلائل النبوة" 2/ 301-304 من طريق محمد بن إسحاق ( وهو عنده في "السيرة" (ص 213- 216) ) حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة مطولا.
وعند إسحاق بن راهويه مقرونا بأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام:
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير.


[6] - ينظر "دلائل النبوة" 2/ 294-295 للبيهقي، و "دلائل النبوة" (99) لقوام السنة.


[7] - أخرجه أحمد 1/ 461، والطيالسي (344)، وسعيد بن منصور في "سننه" (2481)، ولوين في "حديثه" (4)، والبيهقي 2/ 361، وفي "دلائل النبوة " 2/298 عن حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود مطولا.
وجوّد إسناده الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 3/ 69، وحسنه الحافظ في "الفتح " 7/ 189.


[8] - أخرجه البزار (1328) مختصرا، والطبراني 2/ (1478)، وفي "الأحاديث الطوال" (14)، وابن المخلص في "المخلصيات" (1979) من طريق أسد بن عمرو الكوفي، حدثنا مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 419:
"فيه أسد بن عمرو، ومجالد بن سعيد، وثقهما غير واحد وضعفهما جماعة، وبقية رجاله ثقات".


[9] - متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.


[10] - متفق عليه من حديث أبي هريرة.


[11] - متفق عليه من حديث جابر.


[12] - أخرجه مسلم (832) وقد استوفيت تخريجه في "أحاديث الأحكام رواية ودراية" (88).


[13] - متفق عليه.


[14] - ينظر "سيرة ابن هشام" 1/ 321، و "تاريخ الطبري" 2/ 330.