الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن هذه المقالة النتنة إنما جاءت بسبب استدلال ضعيف بل هي أوهى من بيت العنكبوت فقد تركوا إعانة إخواننا المسلمين، وزعموا أن هذا وفاء بالمواثيق التي بين حكوماتهم وبين دول الكفر، واستدلوا بقوله تعالى {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}.
والجواب على هذه الشبهة من أربعة وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الأمر في حق من ترك الهجرة وبقي في ديار الحربيين، كما قال تعالى في أول الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72]، قال ابن كثير رحمه الله في "التفسير" 2/ 330:
"قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ} هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدوٍ لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق، أي: مهادنة إلى مدة فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم". والآية ظاهرة في هذا الأمر، فلا لبس فيه ولا إشكال ولله الحمد.
وقال القرطبي رحمه الله في "التفسير" 8/ 57:
"قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذكم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم، إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته".
الوجه الثاني: أن هذا الأمر أيضا منسوخ كما صرح به جمع من أهل العلم، "أحكام الجصاص" 3/ 113، وقد قال ابن العربي رحمه الله في "أحكام القرآن" 2/ 440:
"ثم نسخ الله ذلك بفتح مكة والميراث بالقرابة، سواء كان الوارث في دار الحرب أو في دار السلام، لسقوط اعتبار الهجرة بالسنة، إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بألا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعدة والعدد، والقوة والجلد".
قلت: رحمك الله يا ابن العربي، كيف لو رأيت حالنا اليوم؟!!.
الوجه الثالث: أن هذا الأمر إنما يكون في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فليس محل خلاف مطلقًا، وجهاد الدفع من أعظم الجهاد، كما قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" 28/ 359:
"فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين، لإعانتهم، كما قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المسلم ، وسواء أكان الرجل من المرتزقة للقتال، أو لم يكن، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون، لما قصدهم العدو عام الخندق ولم يأذن الله في تركه أحدًا كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج، بل ذم الذين يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب: من الآية 13]، فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك - يعني جهاد الطلب - قتال اختيار، للزيادة في الدين وإعلائه ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها".
الوجه الرابع: أننا لو تنزلنا درجات، وسلمنا أن هذا الحكم غير منسوخ، وأن بين المسلمين وبين دول الكفر (مواثيق لم ينقضوها)، وأن هذا الأمر ليس فيمن ترك الهجرة، فإن غايته ترك نصرة أولئك المسلمين فقط، ولا يدل بحال من الأحوال على نصرة الكفار عليهم، فليس يخفى على أحد ما تقدمه الحكومات العربية لأمريكا (وهي أم الخبائث) التي تنصر اليهود بالمال والسلاح وبكل مدد بل بكل ما أوتيت من قوة، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كتبه
حسن التمام
28 ربيع الآخر 1446
٭ ٭ ٭