
ما تضمنه حديث آل بسر رضي الله عنهم من الأحكام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة، أو عود شجرة فليمضغه".
غريب الحديث
(وإن لم يجد أحدكم إلا
لحاء عنبة، أو عود شجرة فليمضغه) قال ابن الأثير في "النهاية"
4/ 243:
"أراد قشر العنبة، استعارة من قشر العود".
وقال
علي القاري في "مرقاة المفاتيح " 4/ 1424:
(لحاء
عنبة) بكسر اللام أي: قشر حبة واحدة من العنب، استعارة من قشر العود، وقيل: المراد
بالعنبة شجرة العنب وهي الحيلة، قال التوربشتي: اللحاء ممدود وهو قشر الشجر،
والعنبة هي الحبة من العنب، وأما قول ابن حجر: المراد شجرة العنب لا حبتها فخطأ
فاحش لعدم صحة نفي إرادة الحبة مع أنها أظهر في المبالغة لا سيما دعوى المراد فيما
يحتمل من الكتاب والسنة باطلة والقول بها مجازفة، بل لو بولغ في هذه المقام بأن
المراد بالعنبة هي الحبة من العنب لا قشر الشجرة لصح، فالعنبة هي الحقيقة اللغوية،
ففي "القاموس" العنب معلوم واحدته عنبة ولم يذكر أصلا إطلاق العنب، لا
بالجنس ولا بالوحدة على الحبة، ومما يؤيده بناء على أن الأصل في العطف التغاير
خصوصا بأو قوله " أو عود شجرة " عطفا على لحاء " فليمضغه "
بفتح الضاد ويضم، في "القاموس" مضغه كمنعه ونصره: لاكه بأسنانه، وهذا
تأكيد بالإفطار لنفي الصوم وإلا فشرط الصوم النية، فإذا لم توجد لم يوجد، ولو لم
يأكل، ونظيره المبادرة إلى أكل شيء ما في عيد الفطر تأكيدا لانتفاء الصوم المنهي
عنه ".
يستفاد من الحديث
الحديث
يدل بمنطوقه على عدم مشروعية صيام السبت في غير الفريضة، وأنه لا يجوز صيام يوم السبت
في النوافل كلِّها سواء ضُمَّ إليه يوم آخر، أو وافق صومًا معتادا كعرفة أو عاشوراء
أو ست من شوال أو الأيَّام البيض أو شهر شعبان إلى غير ذلك من صيام النَّافلة ، إذ
النهي يقتضي التحريم إلا لقرينة ، والحديث يدل على شرعية صيام السبت في كلِّ ما فُرِضَ
علينا كرمضان أو صوم الكفَّارة أو صوم القضاء أو النَّذر إلى غير ذلك من صور صيام الفرض
، والحديث متناول للفرض فقط ، وفيه مبالغة لإظهار عدم صومه "وإن لم يجد أحدكم
إلا لحاء عنبة ، أو عود شجرة فليمضغه " فهذا يدل على الإلزام والحتم ولو بالتظاهر أنك غير صائم لهذا اليوم ، مُظهر لفطره
بمضغ عود شجرة أو لحاء عنبة .
قال
العراقي: كما في "فيض القدير" 6/ 408
"
هذا من المبالغة في النهي عن صومه، لأنَّ قشر شجر العنب جاف لا رطوبة فيه البتة بخلاف
غيره من الأشجار ".
ممن ذهب إلى كراهة صوم السبت في غير الفرض
وقال
الطحاوي في "شرح المعاني" 2/ 80:
" ذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا صوم يوم السبت
تطوعا".
قال
العيني في "نخب الأفكار" 8/ 433:
"
أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وطاووس بن كيسان وإبراهيم وخالد بن معدان، فإنهم كرهوا
صوم يوم السبت تطوعًا، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور ".
لفظ الكراهة قد يطلق ويُراد به التحريم
كلام لابن القيم يبيّن فيه أن الأئمة يطلقون لفظ الكراهة ومرادهم التحريم ويبيّن فيه من غلط عليهم في هذا
قال
ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 32:
"وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك ، حيث تورع الأئمة
عن إطلاق لفظ التحريم ، وأطلقوا لفظ الكراهة ، فنفي المتأخرون التحريم عما أطلق عليه
الأئمة الكراهة ، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على
التنزيه ، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى ، وهذا كثير جدا في تصرفاتهم، فحصل
بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة ، وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين
بملك اليمين: أكرهه ، ولا أقول هو حرام ، ومذهبه تحريمه ، وإنما تورع عن إطلاق لفظ
التحريم لأجل قول عثمان.
وقال
أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن أبي عبد الله: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة،
ومذهبه أنه لا يجوز، وقال في رواية أبي داود:
ويستحب ألا يدخل الحمام إلا بمئزر له، وهذا استحباب
وجوب، وقال في رواية إسحاق بن منصور: إذا كان أكثر مال الرجل حراما فلا يعجبني أن يؤكل
ماله، وهذا على سبيل التحريم.
وقال
في رواية ابنه عبد الله: لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة، وكل
شيء ذبح لغير الله، قال الله عز وجل:{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل
لغير الله به}.
أطلق الإمام أحمد لفظ الكراهة على ما هو حرام عنده
فتأمل
كيف قال: "لا يعجبني" فيما نص الله سبحانه على تحريمه، واحتج هو أيضا بتحريم
الله له في كتابه، وقال في رواية الأثرم:
أكره
لحوم الجلالة وألبانها، وقد صرح بالتحريم في رواية حنبل وغيره، وقال في رواية ابنه
عبد الله: أكره أكل لحم الحية والعقرب، لأن الحية لها ناب والعقرب لها حمة ولا يختلف
مذهبه في تحريمه، وقال في رواية حرب: إذا صاد الكلب من غير أن يرسل فلا يعجبني، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك وسميت" فقد أطلق لفظة
" لا يعجبني " على ما هو حرام عنده".
ثم
ساق أقوالا عن باقي الأئمة أنهم يطلقون لفظ الكراهة ومرادهم التحريم ...
بعض نصوص الكراهة التي ذكرها الطحاوي في "شرح المعاني" وهي معروفة الحرمة
وإليك
بعض نصوص الكراهة التي ذكرها الطحاوي في "شرح المعاني" وهي معروفة الحرمة:
قال
4/ 203:
"
وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوا أكل لحوم الحمر الأهلية ".
وقال
4/ 243:
"
وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوا لبس الحرير للرجال واحتجوا في ذلك بالآثار المتواترة المروية
في النهي عنه".
وقال
4/ 259:
"وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوا خواتيم الذهب
للرجال".
وقال
3/ 40:
"وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا وطء النساء
في أدبارهن، ومنعوا من ذلك، وتأولوا هذه الآية على غير هذا التأويل ".
الجواب عن دعوى النسخ
وقال
أبو دود في "سننه" 2/ 320:
"
هذا حديث منسوخ ".
قال
الحافظ في "التلخيص" 2/ 414:
"ولا يتبين وجه النسخ فيه، قلت: يمكن أن يكون أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم كان
يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر، ثم في آخر أمره قال: (خالفوهم) فالنهي عن صوم
يوم السبت يوافق الحالة الأولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية، وهذه صورة
النسخ والله أعلم".
وقال
في "الفتح" 10/ 362:
"
وناسخه حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد، يتحرى ذلك،
ويقول:
"إنهما
يوما عيد الكفار، وأنا أحب أن أخالفهم"
وفي
لفظ: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد، أخرجه
أحمد والنسائي، وأشار بقوله: "يوما عيد" إلى أنَّ يوم السبت عيد اليهود والأحد
عيد النصارى، وأيام العيد لا تصام، فخالفهم بصيامه، ويستفاد من هذا: أنَّ الذي قاله
بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيداً، بل الأولى في المحافظة على
ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد:
فالأولى
أن يصاما معا وفرادى امتثالا لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب ".
ضعف حديث كان أكثر صومه يوم السبت والأحد
الحديث الذي ذكره الحافظ ضعيف ودونك بيان ذلك:
وهو
حديث أم سلمة: عن كريب مولى ابن عباس قال: إن ابن عباس وناسا من أصحاب الرسول صلى الله
عليه وسلم بعثوني إلى أم سلمة أسألها عن أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أكثر لها صياما؟ فقالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك
فقاموا بأجمعهم إليها فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا، فذكر أنك قلت كذا وكذا،
فقالت: صدق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت
والأحد، وكان يقول:
"إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم".
ولفظ النسائي: " ما مات رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى كان أكثر صومه يوم السبت والأحد، ويقول: هما عيدان لأهل الكتاب
فنحن نحب أن نخالفهم".
وهذا الحديث إسناده ضعيف - أخرجه أحمد 6/ 324، والنسائي
في "الكبرى" (2788) و (2789)، وابن خزيمة (2167)، وابن حبان (3616) و (3646)،
والطبراني 23/ (616) و (964)، وفي "الأوسط" (3857)، والحاكم 1/ 436، والبيهقي
4/303 من طرق عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، قال: حدثنا
أبي عن كريب به.
وقال
الحاكم:
" إسناده صحيح " وأقره الذهبي!
قلت:
إسناده ضعيف فيه عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، الملقب بـــ (دافن).
قال
يعقوب بن شيبة كما في "تهذيب الكمال" 16/ 94 عن على بن المديني: هو وسط.
وقال
الحافظ مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال" 8/ 185:
" ذكره ابن خلفون في كتاب الثقات ".
قلت:
وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" 1/7-2، وقال:
"
يخطئ ويخالف ".
ولهذا قال الحافظ في ترجمته من "التقريب"
(3620):
"
مقبول " يعني حيث يُتابع، وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة ولم يتابع
على هذا الحديث، فهو لين، وهذا هو معنى قول الإمام علي بن المديني
"
هو وسط ".
أي: صالح الحديث الذي لا يحتج بحديثه ولكن
يعتبر به، فإن قول ابن المديني: (وسط) وكذا الذهبي.
تضع الموصوف بها في مرتبة بين التعديل والتجريح،
ويكون حديثه صالحا للاعتبار، ومنه قول يحيى بن سعيد القطان في (يزيد بن كيسان
اليشكري): "ليس هو ممن يعتمد عليه، وهو صالح وسط ".
وقول علي بن المديني في (محمد بن مهاجر):
" كان وسطا ".
وقوله في (موسى بن أعين): " كان صالحا
وسطا ".
وقول أبي زرعة الرازي في (محمد بن الزبرقان):
" صالح، هو وسط.
وأعل الحديث ابن القطان في "الوهم
والإيهام" بأبيه فقال:
"ضعيف، فلا يعرف حال محمد بن عمر ".
قلت: محمد بن عمر، قال الذهبي في "الكاشف"
الترجمة (5073):
"محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه،
وعمه ابن الحنفية، وعنه الثوري وابن جريج ثقة ".
وقال
في "ميزان الاعتدال" 3/ 668:
"محمد
بن عمر بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله الهاشمي، أحد الأشراف بالمدينة، روى عن أبيه،
وعن عبيد الله بن أبي رافع، وعن عمه ابن الحنفية، وعن العباس بن عبيد الله، وعنه ابن
جريج، وهشام بن سعد، ومحمد بن سعد، ومحمد بن موسى الفطري.
وعاش
إلى دولة السفاح، وهو ابن عم زين العابدين على بن الحسين، وكان يشبه بجده الإمام على
بن أبي طالب رضي الله عنه ما علمت به بأسا، ولا رأيت لهم فيه كلاما، وقد روى له أصحاب
السنن الأربعة فما استنكر له حديث".
وقال
الحافظ في "التقريب":
" صدوق ".
وروى
عنه جمع وذكره ابن حبان في "الثقات"، فعلة الحديث إنما هو ابنه عبد الله
بن محمد بن عمر.
ضعف حديث أنه كان يصوم مِنَ الشهر السبت والأحد والاثنين
وقد
استدلوا أيضا بحديث عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر
السبت، والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء، والأربعاء، والخميس ".
وإسناده
ضعيف أيضا، فقد أخرجه الترمذي في "سننه" (746)، وفي "الشمائل"
(309)، ومن طريقه البغوي في "الأنوار في شمائل النبي المختار" (694) حدثنا
محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو أحمد، ومعاوية بن هشام، قالا: حدثنا سفيان، عن
منصور، عن خيثمة، عن عائشة، قالت: فذكره.
وقَالَ
الترمذي:
"
هذا حديث حسن، وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث، عن سفيان ولم يرفعه ".
الموقوف:
أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (1220) – مسند عمر: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، عن خيثمة، قال:
أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (1220) – مسند عمر: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، عن خيثمة، قال:
"
كانت عائشة تصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء
والأربعاء والخميس ".
وقال
الحافظ في "الفتح" 4/ 227:
"وهو
- أي الموقوف - أشبه".
قلت:
لأن معاوية بن هشام وهو القصار: صدوق له أوهام ومثله لا يحتمل مخالفة إمام الضَّبط
والإتقان عبد الرحمن بن مهدي، ولا تنفعه متابعة أبي أحمد وهو الزبيري لأنه يخطئ في
حديث الثوري خاصة كما نص الأئمةُ على ذلك، وله علة أخرى وهي أن خيثمة لم يسمع من عائشة
رضي الله عنها، فقد جزم بذلك أبو داود في "سننه" تحت الحديث رقم (2128)،
فقال:
"خيثمة
لم يسمع من عائشة".
وقال
ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 3/ 439:
"سماع
خيثمة من عائشة، فإني لا أعرفه".
قلت:
وهذان الحديثان فيهما نكارة ففي حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم " كان يكثر من صوم هذين اليومين "، بينما في حديث عائشة رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يصومهما غير مرة واحدة في الشهر، فأيهما
يقدم على الآخر؟!
فثبت
ضعف الحديثين سندًا ونكارتهما متنًا، وقال ابن القيم في "تهذيب السنن" (ص:
1194 - طبعة مكتبة المعارف):
"
وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم".
قلت:
والذي يظهر لي أن أبا داود لم يقصد ما ذكره الحافظ لأنه أتبع حديث الصماء، بحديث جويرية،
وبوّب عليه:
(باب:
الرخصة في ذلك)
وقد جاء هذا صريحًا في بعض نسخ سنن أبي داود، فقد
قال أبو داود:
"عبد
الله بن بسر حمصي، وهذا الحديث منسوخ، نسخه حديث جويرية ".
دعوى النسخ لا تقبل إلا بشرطين
الشرط الأول: "تعذر الجمع بين الدليلين".
قال
المرداوي في "التحبير" 6/ 2983:
"قوله: ( لا نسخ مع إمكان الجمع )، لأنا إنما
نحكم بأن الأول منسوخ إذا تعذر علينا الجمع بينهما، فإذا لم يتعذر وجمعنا بينهما بمقبول
فلا نسخ ".
قال
المجد في "المسودة"، وغيره:
"
لا يتحقق النسخ إلا مع التعارض، فأما مع إمكان الجمع فلا.. ".
وقال
ابن قدامة في "المغني" 1/122:
"
من شروط النسخ: تعذر الجمع ".
الشرط الثاني: العلم بتأخر الناسخ:
قال
ابن الجوزي في " نواسخ القرآن" (ص: 23):
"يكون
الحكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ ... فمتى ورد الحكمان مختلفين على وجه لا
يمكن العمل بأحدهما إلا بترك الآخر ولم يثبت تقديم أحدهما على صاحبه بأحد الطريقين
امتنع ادعاء النسخ في أحدهما ".
وطرق
معرفة العلم بتأخر الناسخ لا يكون إلا بالنص أو بخبر الصحابي، أو بالتاريخ.
قال
الآمدي في "الإحكام" - وهو يُعدد شروط النسخ -:
"وأن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم شرعيا
متراخيا عن الخطاب المنسوخ حكمه" أي متأخِرا.
وقال
الغزالي في "المستصفي" - وهو يتكلم عن تعارض الأدلة -:
"فإذا
تعارض فيها دليلان: فإما أن يستحيل الجمع أو يُمكن، فإن امتنع الجمع لكونهما متناقضين
كقوله مثلا: (من بدل دينه فاقتلوه)، (من بدل دينه فلا تقتلوه)، (لا يصح نكاح بغير ولي)،
(يصح نكاح بغير ولي)، فمثل هذا: لا بد أن يكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، فإن أشكل
التاريخ: فيطلب الحكم من دليل آخر".
وفي
مسألتنا هذه قد تعذّر معرفة التاريخ، فكيف يُعرف النَّاسخ من المنسوخ، هذا مع إمكانية
الجمع بين الحديثين كما سيأتي.
حديث الصماء أولى بالنسخ لغيره
فلو
قال المانعون من صيام السبت في غير الفرض أن حديث الصماء هو ناسخ لأحاديث الجواز لكانوا
أولى بذلك لسببين اثنين:
الأول:
أن راوي حديث المنع وهو عبد الله بن بسر من آخر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
موتًا من أهل الشام.
قال
البخاري في "التاريخ الكبير" 5/ 14: قال علي - يعني ابن المديني -: سمعت
سفيان، يقول: قلت للأحوص: كان أبو أمامة آخر من مات عندكم من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم -؟ قال: كان بعده عبد الله بن بسر قد رأيته ".
حديث المنع من صوم السبت في غير الفريضة ناقلٌ عن حكم الأصل وهو الإباحة فيصار إليه
والثاني:
حديث المنع من صوم السبت في غير الفريضة ناقلٌ عن حكم الأصل وهو الإباحة فيصار
إليه.
قال
صاحب كتاب "التقرير والتحبير" 3/ 10:
"
في التخصيص (أو) يكون من قبل الزمان (حكما كالمحرم) أي كتقديمه (على المبيح) إذا
عارضه (اعتبارا له) أي للمحرم (متأخرا) عن المبيح (كي لا يتكرر النسخ) على تقدير
كون المحرم مقدما على المبيح (بناء على أصالة الإباحة) فإن المحرم حينئذ يكون
ناسخا للإباحة الأصلية، ثم المبيح يكون ناسخا للمحرم بخلاف تقدير كون المحرم
متأخرا مع القول بأصالة الإباحة، فإنه لا يتكرر النسخ، لأن المبيح وارد لإبقائها
حينئذ، والمحرم ناسخ له، والأصل عدم التكرار وتقدم ما في أصالة الإباحة في المسألة
الثانية من مسألتي التنزل في فصل الحاكم من البحث والتحرير فليطلب ثمة (ولأنه) أي
تقديم المحرم على المبيح (الاحتياط) لأن فيه زيادة حكم وهو نيل الثواب بالانتهاء
عنه واستحقاق العقاب بالإقدام عليه، وهو ينعدم في المبيح، والأخذ بالاحتياط أصل في
الشرع".
الجمع بين حديث المنع وحديث جويرية
لفظ
حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل
عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: " أصمت أمس؟"، قالت: لا، قال: "
تريدين أن تصومي غدا؟ " قالت: لا، قال: " فأفطري".
أخرجه
البخاري (1986)، وغيره.
ومثله،
حديث أبي هريرة مرفوعًا:
"لا
يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده".
متفق
عليه.
وهذان
الحديثان فيهما النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم ، فمن أفرده بالصوم يصير صيام يوم
السبت فرضا بحق مَن صام الجمعة ولم يسبقها بصيام الخميس، والامر بالإفطار دليل على
فرض صيام يوم مع يوم الجمعة إما يوم الخميس قبله وإما يوم السبت بعده ، فيكون صيام
يوم السبت داخلا في صيام الفرض اذا لم يصم يوم الخميس ، ولهذا قال لها النبي صلى الله
عليه وآله وسلم "أصمت أمس" وهو يوم الخميس فأجابت بالنفي ، فقال لها تصومين
غدا ، وهو يوم السبت لأنه فرض عليها أن تصوم قبل الجمعة أو بعدها ولا يجوز إفراد يوم الجمعة بصيام ولهذا
قال لها " فأفطري "، وهذا أمر يقتضي الوجوب، ولا يجوز جمع هذه الأيام كلها
بالصيام، فيصوم مع يوم الجمعة يوما قبله ويوما بعده فإذا صام قبل يوم الجمعة يوم الخميس
فلا يجوز له أن يصوم يوم السبت لأنه حينئذ لا يكون فرضا عليه فإذا صام قبل يوم الجمعة
يوم الخميس وصام بعده يوم السبت فقد وقع في النهي من جهتين، من جهة مخالفته لحديث آل
بسر وحديث أبي هريرة وحديث جويرية من جهة أخرى.
يوجد قرينة تدل على أن النهي عن صيام السبت متأخر عن حديث جويرية
لو كان النهي عن صوم يوم السبت قبل حديث جويرية
لقال لها أفطري مباشرة دون أن يسألها عن صوم الغد وهو يوم السبت، فإنه لا حاجة
لجعلها مخيّرة وهذه قرينة تدل على أن النهي عن صيام السبت متأخر عن حديث جويرية،
وأن حديثها متعلق بالنهي عن إفراد الجمعة، فيبقى حديث النهي عن صوم السبت بلا معارض
وقد تقدّم وجه الجمع بينهما، وقد يُقال إن الإباحة متأخرة عن النهي ولكنه ظن لأن
صراحة حديث النهي عن صوم السبت والتنصيص عليه تمنع من ذلك فلا يترك العمل به إلا
لحديث صريح مثله.
وقال
الألباني في "الصحيحة" 2/ 732 استدراك رقم (16- 980):
" لا تعارض والحمد لله، وذلك بأن نقول: مَنْ
صام يوم الجمعة دون الخميس فعليه أن يصوم السبت، وهذا فرض عليه لينجو من إثم مخالفته
الإفراد ليوم الجمعة، فهو في هذه الحالة داخل في عموم قوله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم في حديث السبت: "إلا فيما افترض عليكم"، ولكن هذا إنما هو لمن صام الجمعة
وهو غافل عن النهي عن إفراده، ولم يكن صام الخميس معه كما ذكرنا، أما مَنْ كان على
علم بالنهي فليس له أن يصومه، لأنه في هذه الحالة يصوم ما لا يجب أو يفرض عليه، فلا
يدخل - والحالة هذه - تحت العموم المذكور، ومنه يعرف الجواب عما إذا اتفق يوم الجمعة
مع يوم فضيلة فلا يجوز إفراده كما تقدم ، كما لو وافق ذلك يوم السبت، لأنه ليس ذلك
فرضا عليه ".
قلت:
فتبيّن أنه لا تعارض بين حديث آل بسر وحديث جويرية لإمكان الجمع بينهما.
استدل المبيحون بأدلة عامة
وقد
استدل المبيحون لصيام يوم السبت في غير الفرض بأدلة عامة تدل على استحباب صيام أيام
محددة، مثل صيام يوم عرفة، وصيام عاشوراء، وصيام يوم وإفطار يوم، وصيام ثلاثة أيام
من كل شهر، وصيام ست من شوال، وصيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وصيام أكثر شعبان،
وصيام شهر الله المحرَّم، فقالوا: قد حثَّ الشرع بالأدلة الصحيحة على استحباب هذه الأيام،
ولابدَّ أن يكون فيها يوم السبت أو توافق يوم السبت، ولم يرد في أدلتها استثناء يوم
السبت، فهذا دليل على جواز صومها ولو وافقت يوم السبت، لأنَّ القاعدة تنص على أنَّه:
(لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، ولم يبين لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فدلَّ ذلك على جوازه؟
الجواب: إنَّ
التخصيص نوعان: متصل وهو ما لا يستقل بنفسه.
وتخصيص
منفصل: وهو ما يستقل بنفسه، فالمتصل لا يستقل بنفسه في إفادة معناه، بل يكون متعلقا
بما اتصل به من الكلام كالاستثناء والشرط والغاية، والمنفصل وهو ما يستقل بنفسه في
إفادة معناه، ولنضرب مثالا في قطع يد السارق، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"
لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ".
متفق عليه، واللفظ لمسلم.
فليس
كل مَنْ سرق تقطع يده، بل السرقة مقدّرة بربع دينار فصاعدًا، وهذا التخصيص من نوع المتصل،
لكن مقدار الحد الذي يُقطع منه لم يُذكر في هذا الحديث وإنَّما ذُكر بدليل خارج عن
هذا النص ألا وهو كما بينت السنة بفعله صلى الله عليه وآله وسلم أو فعل أصحابه وإقراره
فإنهم كانوا يقطعون يد السارق من عند المفصل كما هو معروف في كتب الحديث وبينت السنة
القولية اليد المذكورة في آية التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}
[النساء: 43، المائدة: 6] بأنها الكف، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار:
"
إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم
مسح بهما وجهه وكفيه ".
متفق عليه - وقد استوفيت تخريجه في كتابي
"أحاديث الأحكام" (70) - فهذا التخصيص من نوع المنفصل.
فهل
يقول قائل: أنا لا أتقيد بهذا الحديث وبهذا الإقرار لأنَّ الله تعالى يقول: {والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما} فكل مَنْ سرق يجب أن تقطع يده كلها من الكتف، لأنَّه لو
كان هناك مقدار للمال الذي تُقطع به اليد، ومقدار للحد الذي تُقطع منه لبينه الله تعالى؟!،
فلا أظن أن أحدا يقول بهذا إلا مَن جهل ذلك الحديث وذلك الإقرار.
فنقول:
وكذلك الاستثناء من صيام يوم السبت وإن لم يرد ذكره في تلك الأيام المستحب صيامها،
لكنه ذُكر في دليل خارج عنها ألا وهو:
"لا
تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم".
النهي عن صوم السبت في غير الفرض قاعدة عامة تُنزّل على كل ما يظن معارضته
فإن
قال قائل: لماذا لم تقبلوا الاستثناء في النهي عن صيام يوم السبت مفردا أو إذا لم يقصد
صومه بعينه؟
قيل
لهم: نحن رفضنا ذلك الاستثناء لا لأنَّه ورد بدليل منفصل ولا نقبل إلا المتصل، بل لأنَّ
الاستثناء الذي ادعيتموه هو مجرد رأي وليس نصا من كلام الشرع، فلم يقل صوموا هذه الأيام
وإن وافقت يوم السبت، بل جعل لنا قاعدة ثابتة تُنزّل على كل الأدلة العامة التي تقدم
ذكرها، والقاعدة هي:
"لا
تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم".
وهذا
متناول لكل صور التطوع، فأيهما أبلغ بيانا، أن يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مع كل حديث ورد في استحباب تلك الأيام الفاضلة عبارة: "إلا إذا كان يوم السبت
فلا تصوموا" والأحاديث كثيرة كما لا يخفى، أم أن يقول: "لا تصوموا يوم السبت
إلا فيما افترض عليكم" هكذا، فتصبح قاعدة عامة تبيّن للمسلم أنَّ صيام التطوع
مشروع في كل أيام السنة إلا في يوم السبت لأنه منصوص عليه بعينه بنص خاص.
النهي عن صوم السبت في غير فريضة يتناول كل صور صوم التطوع
قال
شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" 2/ 75:
" ولا يقال: يحمل النهي على إفراده، لأن لفظه
"لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" والاستثناء دليل التناول، وهذا
يقتضي أن الحديث عمّ صومه على كل وجه، وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى
فإنه لا إفراد فيه، فاستثناؤه دليل على دخول غيره، بخلاف يوم الجمعة، فإنه بين أنه
إنما نهى عن إفراده".
قلت:
فكيف يصحّ التسوية بين صيام يوم الجمعة وصيام السبت وجعلهما في الحكم سواء وهو عدم
جواز الإفراد وإن لفظي الحديثين يمنعان من ذلك أيما منع كما قال شيخ الإسلام، وهل
هو إلا تحكم بلفظ حديث النهي عن صوم يوم السبت وحمل لفظه على ما لا يحتمل، والله أعلم.
قال الألباني في "تمام المنة" (406):
"وتأويل الحديث بالنهى عن صيام السبت منفردا يأباه قوله "إلا فيما افترض عليكم"
فإنه كما قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن" دليل
على المنع من صومه في غير الفرد مفردا أو مضافا، لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي
أن النهي عنه يتناول كل صور صومه، إلا صورة الفرض ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد،
لقال ( لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده ) ، كما قال في الجمعة،
فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها ".
قال:
" وأيضا لو كانت صورة الاقتران غير منهي عنها لكان استثناؤها في الحديث أولى من
استثناء الفرض لأن شبهة شمول الحديث له أبعد من شموله لصورة الاقتران فإذا استثني الفرض
وحده دل على عدم استثناء غيره كما لا يخفى".
وقال
أيضا في "الصحيحة" 2/ 733:
"فلا يجوز أن نضيف إليه قيدا آخر غير قيد الفريضة
كقول بعضهم ( إلا لمن كان له عادة من صيام أو مفردا ) فإنه يشبه الاستدراك على الشارع
الحكيم ولا يخفى قبحه ".
وقد
ورد عنه صلى الله عليه وآلة وسلم أنه نهى عن صوم يوم الفطر والنحر، كما أخرجه البخاري
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرج عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا:
"لم
يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي".
قال
ابن قدامة المقدسي في "المغني" 3/ 169:
" أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين
منهي عنه، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة ...إلى أن قال: والنهي
يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه. وأما صومهما عن النذر المعين ففيه خلاف ".
فلو وافق الاثنين أو الخميس أو صيام يوم وإفطار يوم
في يوم عيد، فهل تبيحون صيام هذه الأيام لأنَّها لم يرد فيها استثناء يوم العيد؟! إن
قلتم: نعم، خالفتم إجماع أهل العلم، وإن قلتم: لا نصومها إذا وافقت يوم العيد، قيل
لكم: وكذلك لا تصام إذا وافقت يوم السبت، بل إن النهي الوارد في صيام السبت، أوكد من
النهي الوارد في صيام يوم العيد، إذ النهي في صيام العيد إنما جاء بصيغة (نهى)، أما
السبت، فكان فيه توكيد النهي بعبارة أبلغ في النهي
( فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أوعود شجرة )،
فهذا النهي ظاهره أوكد إذ يأمر من لم يجد ما يأكل أن يأكل (لحاء عنبة أوعود شجرة )،
وبنفس جوابكم وعذركم نجيب ونعتذر، لأنه لا فرق بين الصورتين، من وافق صيامه أياما منهيا
عنها كيوم العيد أو أيام التشريق، أو إذا وافق يوما فاضلا يستحب الصيام فيه: يوم السبت
وهو منهي عنه بنص خاص لا يقبل الشك والتأويل.
فإن
قلتم: الأمر يختلف، لأنَّ يومي العيد مجمعٌ على حرمة صيامهما، أما السبت فمختلف فيه،
قلنا لكم: إنَّ هذا خروج عن موضوع المشابهة، لأنَّه سواء كان ذلك اليوم المنهي عن صيامه
قد ثبت النهي عنه بالنَّص أو بالإجماع، نقول: إذا وافق صيام مستحب فهل يُصام فيه أم
لا؟ فإن قلتم: لا يُصام إذا كان مجمع عليه، قلنا لكم: ما علاقة الإجماع وهو مبنيٌ على
الحديث في حرمة صيامه؟!
ثم
اعلموا أنَّ هذا الأمر يجر إلى أمر أعظم منه ألا وهو: عدم العمل بدلالة النص إلا إذا
اجتمع أهل العلم على القول به!، وهذا يعني تعطيل العمل بالكثير من النصوص لعدم الإجماع
عليها، ذلك لأنَّكم فرقتم في الحكم بين صورتين متشابهتين لا لشيء إلا لكون إحداهما
مجمعٌ عليها والأخرى مختلف فيها!
وانظر
إلى فقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن عن زياد بن جبير، قال:
"
رجل نذر أن يصوم يوما - قال: أظنه قال: الاثنين - فوافق ذلك يوم عيد، فقال ابن
عمر: أمر الله بوفاء النذر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم ".
أخرجه
البخاري (1994)، (6706)، ومسلم (1139).
ولا يفوتك أنَّ هذا الرجل الذي جاء يسأل ابن عمر
قد نذر أن يصوم يوما فوافق يوم العيد، ومسألة النَّذر المعيَّن مختلفٌ فيها كما ذكر
ابن قدامة فيما سبق عنه، ومع هذا أجابه بما فَهِمَ منه السائل المنع من صومه.
إنَّ
هذه الأدلة الدالة على استحباب تلك الأيام عامة، بمعنى: أنَّها على مدار أيام السنة،
السبت والأحد إلى آخر أيام الأسبوع، وحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض
عليكم" خاص في حكم صيام يوم السبت، فيكون الجمع: أنَّ هذه الأيام يشرع صيامها
على مدار أيام السنة إلا في أوقات النهي، كالعيدين ويوم السبت، ولمن صام الجمعة بمفردها.
قال
الشوكاني في "إرشاد الفحول" 1/ 400:
"وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام، والأقوى
أرجح، وأيضا إجراء العام على عمومه إهمال للخاص، وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام
". أي: لا يهمل العام مطلقا إلا في بعض صوره، فإن صادف صوم له فضيلة يوم السبت،
لم يشرع كما واضح، والأدلة التي احتج بها المجيزون لصيام السبت منها ما هو ضعيف مثل
حديث أم سلمة وعائشة وهما غير صالحين للاحتجاج بهما كما تقدم آنفا.
ومنها
ما هو صحيح لكنه عام، وحديث النهي عن صيام السبت في غير الفرض خاص، وحمل العام على
الخاص متعين، وقد ذكرنا وجوه الرد على تلك الأحاديث.
وأما
القول لماذا لم تقبلوا توجيهنا لحديث النهي عن صيام السبت أنه لأجل تخصيصه بالصيام؟!
جوابه:
لو كان المقصود من النهي تخصيص السبت بالصيام، لكان الحديث جاء بلفظ: لا تخصوا يوم
السبت بصيام، كما هو الحال في يوم الجمعة فقد روى مسلم (1144) من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
"
لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين
الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ".
والنبي
صلى الله عليه وآله وسلم أفصح العرب، فلو كان يريد النهي عن تخصيص السبت بصيام، لذكره
صريحا كما هو الحال في نهيه عن تخصيص الجمعة بصيام أو قيام!
قال الألباني في "الصحيحة" 2/ 733 - تحت الحديث ( لا تخصوا ليلة الجمعة
بقيام ... الحديث )، قال:
"
إن هناك حديثا آخر يشبه هذا الحديث من حيث الاشتراك في النهى مع الاستثناء فيه وهو
قوله صلى الله عليه وسلم (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم...الحديث) وهو
حديث صحيح يقينا ومخرج في "ارواء الغليل " رقم (960)، فأشكل هذا الحديث على
كثير من الناس قديما وحديثا وقد لقيت مقاومة شديدة من بعض الخاصة فضلا عن العامة وتخريجه
عندي كحديث الجمعة فلا يجوز أن نضيف إليه قيدا آخر غير قيد الفريضة كقول بعضهم ( إلا
لمن كانت له عادة من صيام ) أو ( مفردا ) فإنه يشبه الاستدراك على الشارع الحكيم ولا
يخفى قبحه".
وقد
استدل المبيحون أيضا بأنه وقع الإجماع على مشروعية صيام السبت في غير الفرض إذا ضمَّ
إليه يوما آخر، أو إذا لم يقصد تخصيصه بالصيام.
وهذه
دعوى منقوضة بقول الطحاوي الذي تقدم: "فذهب قوم إلى هذا الحديث: فكرهوا صوم يوم
السبت تطوعا، وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بصومه بأسا".
قال
العيني في "نخب الأفكار" 8/ 433:
"أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وطاووس بن كيسان،
وإبراهيم، وخالد بن معدان، فإنهم كرهوا صوم يوم السبت تطوعًا، واحتجوا في ذلك بالحديث
المذكور".
وقال
ابن رشد القرطبي في "بداية المجتهد" 2/ 71:
"أما
الأيام المنهي عنها: فمنها أيضا متفق عليها، ومنها مختلف فيها، أما المتفق عليها:
فيوم الفطر، ويوم الأضحى لثبوت النهي عن صيامهما،
وأما المختلف فيها: فأيام التشريق، ويوم الشك، ويوم الجمعة، ويوم السبت، والنصف الآخر
من شعبان، وصيام الدهر ... وأما يوم السبت: فالسبب في اختلافهم فيه، اختلافهم في تصحيح
ما روي من أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض
عليكم " خرجه أبو داود، قالوا والحديث منسوخ، نسخه حديث جويرية بنت الحارث:
" أن النبي - عليه الصلاة والسلام - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: صمت
أمس؟ فقالت: لا، فقال: تريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري ".
وقال الشيخ ابن عثيمين:
"
وأما السبت، فقيل: إنه كالأربعاء والثلاثاء يباح، وقيل: إنه لا يجوز إلا في الفريضة،
وقيل: إنه يجوز لكن بدون إفراد".
فهذه
ثلاثة أوجه نقلها الشيخ ابن عثيمين، في صيام السبت في غير الفريضة، وهي تدل على أن
الاختلاف واقع في هذه المسألة.
كثرة المخالفين للحق لا تبطل ما كان حقًا
وللمبيحين
تناقض وهو أنهم تارة يقولون هذا إجماع، وتارة يقولون هو قول جمهور أهل العلم، وهذا
الثاني لا نسلّم به على إطلاقه، وأما الأول فظاهر البطلان، ودعوى أن هذا قول الجمهور
يعوزه الدليل ونحن نعلم أن الكثير من المسائل يدعي أصحابُها أنها قول الجمهور ثم يتبين
خلاف ذلك!
وما
أكثر المسائل التي انفرد فيها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن جمهور العلماء من ذلك
مسألة الطلاق بالثلاث (البدعي)، هل يقع أو لا يقع ؟، وكذا شيخ الإسلام الثاني ابن القيم
رحمه الله تعالى وغيرهما ممن هو موضع ثقة عند الناس ومع ذلك لا يستطيع المعترض دفعها
ولا يسعه إلا التسليم بها، ولقد قرأت عجبا ممن يدّعي السلفية حيث يقول أحدهم إن هذا
القول شاذ !!، ثم يقول: مَنْ قال به من السلف ؟!، وما يدري هذا المعترض أنه يرد حديث
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يدري، وصدق علي بن أبي طالب رضي الله
عنه إذ قال لأحدهم: "ويحك...اعرف الحق تعرف أهله"، وهذه حجة المقلد الضعيف
الذي لا يستطيع أن يقارع الحجة بالحجة، فهذا قول سيد السلف صلى الله عليه وآله وسلم
بين يديك وأمام ناظريك ثم تبحث عمن يقول به، حقيق بمن كان هذا حاله ألا يوفق للحق،
ويظل راكنًا للتقليد طوال حياته، ويدفع أحاديث نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذه
الحجج الواهية، وقد عافانا الله تعالى مما ابتلاهم به فنحن ندور مع حديث رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم حيثما دار:
فحسبكم هذا التفاوت بيننا ...
قال
ابن حزم في "المحلى" 8/ 384 – دار الفكر:
" ولم يأمر الله تعالى بالرد عند التنازع
إلا إلى كلامه، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام لا إلى كلام صاحب ولا غيره، فمن
رد عند التنازع إلى غير كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فقد تعدى
حدود الله تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1].
قال
تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر} [النساء: 59]".
وقال
أيضا 8/ 233:
"
فإن قيل: هو قول الجمهور؟ قلنا: فكان ماذا؟ وكم قصة خالفتم فيها الجمهور؟ نعم، وأتيتم
بقول لا يعرف أحد قاله قبل من قلدتموه دينكم ، وهذا الشافعي خالف جمهور العلماء في
بطلان الصلاة بترك الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التشهد الأخير،
وفي تحديد القلتين، وفي تنجيس الماء بما يموت فيه من الذباب، وفي نجاسة الشعر، وفي
أزيد من مائة قضية، وهذا أبو حنيفة خالف في زكاة البقر جمهور العلماء، وخالف في قوله:
إن الخلطة لا تغير الزكاة جمهور العلماء ، وخالف في وضعه في الذهب أوقاصا جمهور العلماء
- وفي أزيد من ألف قضية وهذا مالك خالف في إيجاب الزكاة في السائمة جمهور العلماء،
وفي الحامل، والمرضع تفطران، وفي أن العمرة تطوع - وفي مئين من القضايا، فالآن صار
أكثر من روي عنه - ولا يبلغون عشرة حجة لا يجوز خلافها، وقد خالفهم غيرهم من نظرائهم،
وكم قصة خالفوا فيها رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم
كحديثه "لا يجوز لامرأة أمر في مالها، ولا عطية، إذا ملك زوجها عصمتها"،
وأن الدية على أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الشاء ألفا شاة، وفي إحراق رحل الغال
وغير ذلك - وهذا لعب وعبث في الدين ".
وقال
أيضاً: "وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحاب هؤلاء القوم إذا اجتمع
رأيهم على شيء كان أسهل شيء عليهم دعوى الإجماع فإن لم يمكنهم ذلك لم تكن عليهم مؤنة
من دعوى أنه قول الجمهور وأن خلافه شذوذ وإن خصومهم ليرثون لهم من تورطهم في هذه الدعاوى
الكاذبة نعوذ بالله من مثلها وأيم الله لا أقدم على أن ينسب إلى أحد قول لم يثبت عنده
أن ذلك المرء قاله إلا مستسهل الكذب مقدم عليه ساقط العدالة وأما نحن فإن صح عندنا
عن إنسان أنه قال قولا نسبناه إليه وإن رويناه ولم يصح عندنا قلنا روى عن فلان فإن
لم يرو لنا عنه قول لم ننسب إليه قولا لم يبلغنا عنه ولا نتكثر بالكذب ولم نذكره لا
علينا ولا لنا ...".
وقال
في "إحكام الأحكام" - لما أورد قول الخصم: "وقالوا: نرجِّح أحد الخبرين
بأن يكون يميل إليه الأكثر من الناس "
فردَّ
عليهم بقوله:
"ولأنَّ كثرة القائلين بالقول لا تُصَحِّح ما
لم يكن صحيحا قبل أن يقولوا به، وقلة القائلين بالقول لا تُبطِل ما كان حقاً قبل أن
يقول به أحد، وقد بينا هذا جداً في باب: "إبطال قول من رجح الخبر بعمل أهل المدينة"
في آخر هذا الباب، وأيضا: فإنَّ القول قد يكثر القائلون به بعد أن كانوا قليلاً، ويقلّون
بعد أن كانوا كثيرا، فقد كان جميع أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي رحمه الله ثم رجعوا
إلى مذهب مالك، وقد كان جمهور أهل إفريقية ومصر على مذهب أبي حنيفة وكذلك أهل العراق
ثم غلب على إفريقية مذهب مالك وعلى مصر والعراق مذهب الشافعي فيلزم على هذا: أنَّ القول
إذا كثر قائلوه صار حقا وإذا قلوا كما ذكرنا عاد باطلا، وهذا هو الهذيان نفسه".
قلت:
وهذا عام في كل نزاع، والعلماء الذين تكلموا عن الإجماع وحجيته إنما كان مصدر قوة الإجماع
أنهم يحيلون أن يجمع العلماء فيما لا نص فيه، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك
فيما شجر بينهم} وهذا عموم في كل ما شجر بغض النظر عن الجمهرة والكثرة والقلة.
وقد
اختلف الصحابة في قتال أهل الردة فكانوا فريقين:
الفريق
الأول: أبو بكر رضي الله عنه وحده.
والفريق
الثاني: فيه عمر المؤيد بالتنزيل في قضايا عدة وباقي الصحابة، وكلهم أئمة ومنهم بقية
الخلفاء، ومعهم نص "أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وأموالهم"، وفي هذا وقع تناظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما
في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"لما
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق بعده، وكفر من كفر من العرب،
قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله ، فقد عصم مني
ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من
فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه ، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت
أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق" .
فأبو بكر رضي الله عنه أخذ قتالهم من قوله:
" إلا بحقه ".
ومع
هذا فالصواب كان حليف أبي بكر رضي الله عنه، وإلى قوله رجع الصحابة كلهم.
قلت:
وهذه الأدلة العامة مبيحة، وهي تدل على استحباب صيام أيام محددة، مثل صيام يوم عرفة،
وصيام عاشوراء، وصيام يوم وإفطار يوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال،
وصيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وصيام أكثر شعبان، وصيام شهر الله المحرَّم، وحديث
آل بسر رضي الله عنهم حاظر.
قال
السيوطي: " إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم والآخر الإباحة قدم التحريم
في الأصح ".
وقال
القرافي في "الفروق" 3/ 145:
"
يحتاط الشرع في الخروج من الحرمة إلى الإباحة أكثر من الخروج من الإباحة إلى الحرمة،
لأن التحريم يعتمد المفاسد فيتعين الاحتياط له، فلا يقدم محل فيه مفسدة إلا بسبب قوي
يدل على زوال تلك المفسدة، أو يعارضها ويمنع الإباحة ما فيه مفسدة بأيسر الأسباب دفعًا
للمفسدة بحسب الإمكان ".
وقال
الألباني كما في تفريغ سلسلة الهدى والنور - الإصدار الثالث - 6/ 380:
"
لابد لنا من لفتة نظرٍ إلى مسألة فقهية هامة أصولية هامة، ثم يأتي الأمر الثاني
الذي أشرت إليه آنفا، إذا تعارض حكمان أو حديثان من الأحاديث الصحيحة عن الرسول
عليه السلام أحدهما يبيح شيئا والآخر ينهى عنه أو يُحَظِّر عنه أو يحرِّمه، فهنا
من قواعد التوفيق في علم أصول الحديث أنه يُقدَّم الحاظر على المبيح.
الآن
في الصورة السابقة صوم يوم عاشوراء أو صوم يوم عرفة وقد اتفقا مع يوم السبت، وقد
نهينا عن صيام يوم السبت كما ذكرنا، حينئذ لا بد من تطبيق القاعدة التي ذكرت آنفا؛
تقديم الحاضر على المبيح، يقول لا تصوموا يوم السبت إلا في الفرض، ويوم عاشوراء
ويوم عرفة ليسا فرضا هو مباح بل هو مستحب، لكن إذا تعارض الحاظر مع المبيح قُدِّم
الحاضر على المبيح ...
وقال:
فلا ينبغي للمسلم بعد مثل هذا البيان أن يتردد أو أن لا يبادر إلى الانتهاء عما
نهى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عنه ركونا منه إلى القاعدة العامة وإلى
الفضيلة الخاصة التي جاءت في بعض الأيام الفضيلة، ولكنها تعارضت مع نهي خاص، فهذا
النهي إذن مقدم أولاً لأنه خاص والخاص يقضي على العام، ولأنه حاظر، والحاظر مقدّم
على المبيح ".
وهذه
بعض الأمثلة تتجلّى فيها هذه القاعدة، وإعمالهم لها، وأن المجيزين لصيام يوم السبت
في التطوع قد قالوا بحرمة أو كراهة ما سأذكره في هذه الأمثلة، فلو سار كل عالم
بقواعد منضبطة لما رأيت اختلافًا، والله الموفق:
بعض الأمثلة في تقديمهم الحاظر على المبيح
المثال الأول: صيام المرأة من دون إذن زوجهاقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه".
أخرجه البخاري (5192)، ومسلم (1026) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
قال النووي في "شرح مسلم" 7/ 115:
"وهذا النهي للتحريم صرح به أصحابنا وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي".
فقدموا النهي على إباحة صيام النفل في حق المرأة إلا بإذن زوجها، بل حتى الصوم الواجب الذي على التراخي، وقد منعوا المرأة الموسرة من السفر لأداء فريضة الحج إلا مع ذي محرم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم".
أخرجه البخاري (1086) و (1087)، ومسلم (1338) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فذكره.
قال الحافظ في " الفتح " 2/ 568:
"واستدل به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم وهو إجماع في غير الحج والعمرة والخروج من دار الشرك ومنهم من جعل ذلك من شرائط الحج".
قلت: المرأة التي ليس لها محرم لا يجب عليها الحج لنهيها عن السفر إلا مع ذي محرم، وبهذا القول قال الحسن، والنخعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وأصحاب الرأي، وهو الصحيح، لعموم أحاديث نهي المرأة عن السفر بلا محرم، وخالف في ذلك مالك، والشافعي، والأوزاعي، قال ابن المنذر كما في "المغني 3/ 229:
" تركوا القول بظاهر الحديث، واشترط كل واحد منهم شرطا لا حجة معه عليه".
المثال الثاني: النهي عن الصيام بعد انتصاف شهر شعبان لمن ليست له عادة، ولا مضافا إلى ما قبله
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا".
إسناده حسن - أخرجه أبو داود (2337)، والترمذي (748)، وابن ماجه (1651)، وأحمد 2/
442، والنسائي في "الكبرى" (2923)، وعبد الرزاق في "المصنف" (7325)،
وابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 21، والدارمي (1740) و (1741)، وأبو عوانة
(2709) و (2710) و (2711) و (2712) و (2713)، والطحاوي في "شرح المعاني"
2/ 82، وابن حبان (3589) و (3591)، والطبراني في "الأوسط" (6863) وفي
"مسند الشاميين" (1827)، والعقيلي في "الضعفاء" 3/ 354، وابن
عدي في "الكامل" 5/ 501 و 6/ 492 ، وأبو الشيخ في "حديثه"
(111) – انتقاء ابن مردويه، وتمام في "الفوائد" (861)، وأبو بكر الشافعي
في "الغيلانيات" (601)، والدارقطني 3/ 169، وابن المقرئ في
"المعجم" (96) و (263) و (795)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"
1/ 283، وابن حزم في "المحلى" 7/ 25-26، والبيهقي 4/ 209، والخطيب في
"تاريخ بغداد" 8/ 48، والشجري في "الأمالي الخميسية" (1900) -
ترتيب، وأبو الحسن السكري في "الفوائد المنتقاة" (71)، والبغوي في
"شرح السنة" (1721)، والجورقاني في "الأباطيل" (489) من طرق
عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة به.
وفي لفظ "إذا انتصف شعبان فلا صوم حتى
يأتي رمضان".
ولفظ أبي عوانة (2710) "إذا كان النصف من
شعبان فأمسكوا عن الصوم حتى يدخل رمضان، إلا أن يكون عليه صوم فليسرد ولا يقطع".
وقال الترمذي:
" حديث حسن صحيح ".
" حديث حسن صحيح ".
قلت: إسناده على شرط مسلم، وصححه ابن حبان، والجورقاني،
واحتج به ابن حزم.
وأخرجه ابن الأعرابي في "المعجم" (1198)
من طريق إبراهيم بن يحيى، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا انتصف شعبان فأفطروا".
وإسناده ضعيف جدا، إبراهيم بن أبي يحبى
الأسلمي: متروك.
وأخرجه
الطبراني في "الأوسط" (1936) من طريق عبيد الله بن عبد الله المنكدري،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن عبد الرحمن بن يعقوب به.
وقال الطبراني:
"لم يرو هذا الحديث عن محمد بن المنكدر، إلا ابنه المنكدر، تفرد به: ابنه عبد الله".
وقال الطبراني:
"لم يرو هذا الحديث عن محمد بن المنكدر، إلا ابنه المنكدر، تفرد به: ابنه عبد الله".
والمنكدر
بن محمد بن المنكدر: لين.
وأما
ابنه عبد الله، فقال الذهبي في "الميزان" 2/ 508:
"عبد الله بن المنكدر بن محمد بن المنكدر: فيه
جهالة، وأتى بخبر منكر، ساقه العقيلي".
قال
الحافظ في "اللسان" 5/ 24:
"والخبر
المذكور أورد له، عَن أبيه، عَن جَابر رفعه: إذا أبت أمتي أن يظلم ظالموها تودع
الله منها. وفيه: إذا استعمل عليكم شراركم فقد تودع منكم.
وذَكَره
ابن حِبَّان في "الثقات" وقال: يروي، عَن أبيه روى عنه ابنه عبد الله بن
عبد الله".
وقال
السخاوي في "الأجوبة المرضية" 1/ 38:
"هكذا
أخرجه البيهقي في "الخلافيات" قال: حدثنا أبو حازم عمر بن أحمد العبدوي
الحافظ إملاء، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن حبيب النسوي، حدثنا زكريا بن
يحيى بن الحارث، حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا حسين بن محمد، عن المنكدر بن محمد
بن المنكدر عن أبيه عن مولى الحرقة وهو عبد الرحمن بن يعقوب أبو العلاء، عن أبي
هريرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان النصف من شعبان
فأفطروا" لكنها معلولة، فقد رواه ابن عدي في "الكامل" من طريق محمد
بن المنكدر، فقال عن العلاء، عن أبيه، فرجع الحديث إلى العلاء".
وقال
أبو داود في " سننه " بعد حديث العلاء:
"
وكان عبد الرحمن، لا يحدث به، قلت لأحمد: لم قال؟ لأنه كان عنده، أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان، وقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه".
قال أبو داود: "وليس هذا عندي خلافه، ولم
يجئ به غير العلاء، عن أبيه".
وقال
ابن حزم في "المحلى" 7/ 25 - بعد أن أورده من حديث العلاء -:
" هكذا رواه سفيان عن العلاء، والعلاء ثقة
روى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، ومالك، وسفيان بن عيينة، ومسعر بن كدام، وأبو
العميس، وكلهم يحتج بحديثه فلا يضره غمز ابن معين له ".
وقال
الحافظ زكي الدين المنذري في "مختصر سنن أبي داود" 2/ 94:
"والعلاء
بن عبد الرحمن، وإن كان فيه مقال، فقد حدث عنه الإمام مالك، مع شدة انتقاده للرجال
وتحَرِّيه في ذلك، وقد احتجَّ به مسلم في صحيحه، وذكر له أحاديث كثيرة، فهو على
شرطه، ويجوز أن يكون تركه لأجل تفرده به، وإن كان قد خرج في الصحيح أحاديث انفرد
بها رواتها، وكذلك فعل البخاري أيضًا، وللحفاظ في الرجال مذاهب، فعلى كل واحد منهم
ما أدى إليه اجتهاده من القبول والرد".
وقال
الترمذي:
"ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن يكون الرجل مفطرا، فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان، وقد روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشبه قولهم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا شهر رمضان بصيام، إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم) وقد دل في هذا الحديث أنما الكراهية على من يتعمد الصيام لحال رمضان ".
"ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن يكون الرجل مفطرا، فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان، وقد روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشبه قولهم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا شهر رمضان بصيام، إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم) وقد دل في هذا الحديث أنما الكراهية على من يتعمد الصيام لحال رمضان ".
وقال
ابن خزيمة في "صحيحه" 3/ 998:
"معنى
خبر أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى
رمضان ) أي: ألا تواصلوا شعبان برمضان فتصوموا جميع شعبان، أو أن يوافق ذلك صوما
كان يصومه المرء قبل ذاك فيصوم ذلك الصيام بعد النصف من شعبان، لا أنه نهى عن
الصوم إذا انتصف شعبان نهيا مطلقا".
وقال
الطحاوي:
" فذهب قوم إلى كراهة الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان، واحتجوا في ذلك، بهذا الحديث ".
" فذهب قوم إلى كراهة الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان، واحتجوا في ذلك، بهذا الحديث ".
وقال
البغوي في "شرح السنة" 6/ 238:
"هذا هو معنى الحديث إلا أن يوافق صوما
كان يصومه، بأن يكون قد اعتاد صوم يوم الاثنين والخميس، أو كان يصوم صوم داود،
فيصوم على عادته".
قلت: وحملت طائفة ما عارض حديث العلاء على صوم
نصف شعبان مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني، وحديث العلاء على من
تعمد الصوم بعد النصف، لا لعادة، ولا مضافا إلى ما قبله، فهو يدل على منع من تعمد
الصوم بعد النصف من شعبان لمن ليس له عادة، ولا مضافا إلى ما قبله، فإذا أراد أن يصوم
يوم الاثنين والخميس بعد انتصاف شعبان فلا يجوز له ذلك، مع أن فضل صيام يوم الاثنين
والخميس ليس بخافٍ على أحد، لكن إن أراد صيامهما مَن ليس معتادًا، فإنه يمنع لأجل
هذا الحديث، فقدمنا الحاظر على المبيح، وأجزناه لمن له عادة لثبوت صيامه صلى الله
عليه وسلم شهر شعبان، فتقديم النهي في هذه المسألة فيه شبه بمسألة النهي عن صيام
السبت في غير الفرض من هذه الحيثية، فتأمل.
المثال الثالث: صيام الشك
قال
النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا
أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم ".
أخرجه البخاري (1914)،
ومسلم (1082) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فذكره.
قال النووي في
"شرح مسلم" 7/ 194:
"فيه التصريح
بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له أو يصله بما قبله
فإن لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام".
قلت: فإذا صادف يوم
الاثنين أو يوم الخميس - ومن السنة صيامهما – هذين اليومين، فإنهم قدموا النهي على
استحباب صوم يومي الاثنين والخميس، فمنعوا صومهما مَنْ ليس معتادًا.
المثال الرابع: صوم العيدين
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم الأضحى، ويوم الفطر".
أخرجه مسلم (1138) من طريق مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: فذكره.
وأخرجه البخاري (1993) من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن عطاء بن مينا، قال: سمعته يحدث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
" ينهى عن صيامين، وبيعتين: الفطر والنحر، والملامسة والمنابذة ".
قال النووي في "شرح مسلم" 8/ 15:
"وقد
أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو
كفارة أو غير ذلك".
قلت: فمن باب أولى عندهم حرمة صوم يومي الفطر والأضحى،
حتى إذا صادف يوم الاثنين أو الخميس، أو صومَ من يصوم صيام داود عليه السلام، بل
إذا نذر أن يصوم يوم الاثنين فوافق يوم العيد فلا يجوز له صوم العيد، فقدموا النهي
بكل حال، ولم يعارضوه بغيره.
المثال الخامس: صيام أيام التشريق
عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق، فنادى " أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن وأيام منى أيام أكل وشرب".
أخرجه مسلم (1142) من طريق إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن ابن كعب بن مالك به.
قال
النووي:
"وأيام
التشريق ثلاثة بعد يوم النحر، سميت بذلك لتشريق الناس لحوم الأضاحي فيها، وهو
تقديدها، ونشرها في الشمس ".
وأخرج البخاري (1997) عن عروة، عن عائشة، وعن
سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهم، قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن،
إلا لمن لم يجد الهدي".
فأباحوا صيامها للمتمتع الذي لم يجد الهدي، ولم
يبيحوه لغيره، بل ذهبوا بعدم جواز صومها للمتمتع ولا لغيره، وهو قول علي بن أبي
طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والشافعي في الجديد.
قال
النووي في "شرح المهذب" 6/ 445:
" لا يصح فيها صوم (والقديم) صحته لمتمتع
لم يجد الهدي وممن قال به من السلف العلماء بامتناع صومها للمتمتع ولغيره علي بن
أبي طالب وأبي حنيفة وداود وابن المنذر وهو أصح الروايتين عن أحمد وحكى ابن المنذر
جواز صومها للمتمتع وغيره عن الزبير بن العوام وابن عمر وابن سيرين وقال ابن عمر
وعائشة والاوزاعي ومالك واحمد واسحاق في رواية عنه يجوز للمتمتع صومها".
وعندنا
قاعدة ( إذا تعارض دليلان أحدهما ناقل عن حكم الأصل والآخر مبقي عليه فيقدم
الناقل ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في
"مجموع الفتاوى" 20/ 377:
"
إذا تعارض نصان أحدهما ناقل عن الأصل والآخر ناف مبق لحكم الأصل كان الناقل أولى،
لأنه إذا قدم الناقل لم يلزم تعيين الحكم إلا مرة واحدة وإذا قدم المبقي تغير
الحكم مرتين ".
وعليه
إن صيام كل الأيام على الإباحة الأصلية، فيكون صوم يومي العيدين وأيام التشريق، ويوم
الشك، ويوم السبت، خارج أصل الإباحة، لأن النهي عن صيامها ناقلٌ عن الأصل،
والأحاديث التي يفهم منها جواز صيامها مبقية على حكم الأصل فيقدم النهي على
الإباحة.
المثال السادس: النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع
الشمس
عن أبي
هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب
الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس".
أخرجه
البخاري (588)، ومسلم (825) من حديث أبي هريرة.
والنهي
في هذا الحديث محمول على ما لا سبب له، ولم يبيحوا النفل المطلق، وقد جاءت أحاديث
تدل على إباحة الصلاة في كل وقت، منها قوله صلى الله عليه وسلم " عليك بكثرة
السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة".
أخرجه مسلم (488).
أخرجه مسلم (488).
وأخرج أيضا (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي، أنه
قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: "سل"
فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: "أو غير ذلك" قلت: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
أخرجه البخاري (5473) و (5474)، ومسلم (1976)
من حديث أبي هريرة مرفوعا.
قوله (فرع) هو أول نتاج الإبل والغنم، كان أهل
الجاهلية يذبحونه لأصنامهم، والفرع ذبح كانوا إذا بلغت الإبل ما تمناه صاحبها
ذبحوه، وكذلك إذا بلغت الإبل مائة يعتر منها بعيرا كل عام ولا يأكل منه هو ولا أهل
بيته، والفرع أيضا طعام يصنع لنتاج الإبل كالخرس للولادة.
قوله (عتيرة) فتح المهملة وكسر المثناة بوزن
عظيمة قال القزاز: سميت عتيرة بما يفعل من الذبح وهو العتر فهي فعيلة بمعنى مفعولة،
تذبح في شهر رجب.
في هذا الحديث نفي الفرع والعتيرة، والمراد به
النهي وقد ورد بصيغة النهي في رواية النسائي (4223)، و"الكبرى" (4535)،
وأحمد 2/ 409، ومن طريقه القطيعي في "جزء الألف دينار" (71)، والطيالسي
(2426) بلفظ " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع والعتيرة".
وجاءت أحاديث تدل على استحباب الفرع والعتيرة،
منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد 2/ 182-183 عن عبد الرزاق ( وهو عنده
في "المصنف" (7961) و (7995) ) أخبرنا داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جده، قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة؟ فقال: " إن
الله لا يحب العقوق " وكأنه كره الاسم قالوا: يا رسول الله، إنما نسألك عن
أحدنا يولد له؟ قال: " من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان
مكافأتان، وعن الجارية شاة " قال: وسئل عن الفرع؟ قال: " والفرع حق، وأن
تتركه حتى يكون شغزبا أو شغزوبا ابن مخاض أو ابن لبون، فتحمل عليه في سبيل الله،
أو تعطيه أرملة، خير من أن تذبحه يلصق لحمه بوبره، وتكفئ إناءك، وتوله ناقتك
"، وقال: وسئل عن العتيرة؟ فقال: " العتيرة حق".
قال: بعض القوم لعمرو بن شعيب: ما العتيرة؟
قال: كانوا يذبحون في رجب شاة فيطبخون ويأكلون
ويطعمون".
وإسناده حسن.
وعن نبيشة الهذلي قال: نادى النبي صلى الله
عليه وسلم رجل فقال: إنا كنا نعتر عتيرة - يعني في الجاهلية - في رجب، فما تأمرنا؟
قال: "اذبحوها في أي شهر كان، وبروا الله عز وجل وأطعموا ". قال: إنا
كنا نفرع فرعا في الجاهلية، قال: " في كل سائمة فرع، حتى إذا استحمل ذبحته
وتصدقت بلحمه، فإن ذلك هو خير ".
أخرجه النسائي (4231)، وفي "الكبرى"
(4543)، وابن ماجه (3167)، وأحمد 5/ 76، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"
(1064) من طريق خالد الحذاء، عن أبي مليح، عن نبيشة الهذلي به.
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وإسناده صحيح على شرط مسلم.
قال أبو زرعة العراقي في "طرح التثريب"
5/ 222:
"في حديث أبي هريرة نفى الفرع والعتيرة،
وفي رواية النهي عنهما، وفي حديث الحارث بن عمرو التخيير بين فعلهما وتركهما، وفي
حديث عمرو بن شعيب أنهما حق، وفي حديث المخنف الإلزام بالعتيرة، وفي حديث نبيشة
الأمر بالعتيرة من غير تقييد بكونها في رجب، والإلزام بالفرع، وأن تأخير ذبحه إلى
كبره أفضل قال والدي - رحمه الله يعني أبا الفضل العراقي - في "شرح الترمذي":
حديث النهي أصح وأحاديث الإباحة أكثر انتهى.
وقد
اختلف العلماء في ذلك فذهبت طائفة إلى أن النهي ناسخ لأحاديث الإباحة قال ابن
المنذر (كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية وفعلهما بعض أهل الإسلام بأمر النبي صلى
الله عليه وسلم ثم نهى عنهما فقال "لا فرعة ولا عتيرة" فانتهى الناس
عنهما لنهيه، ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل ولا نعلم أحدا من
أهل العلم يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان نهاهم عنهما ثم أذن لهم فيهما
والدليل على أن الفعل كان قبل النهي قوله في حديث نبيشة " إنا كنا نعتر عتيرة
في الجاهلية وإنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية"، وفي إجماع علماء الأمصار على
النهي عن استعمالها مع ثبوت النهي عن ذلك بيان لما قلناه، وكان ابن سيرين من بين
أهل العلم يذبح العتيرة في رجب وكان يروي فيها شيئا ).
وتبعه ابن بطال وقال بعد قوله وكان يروي فيها شيئا: لا يصح وأظنه حديث ابن عون عن أبي رملة عن مخنف بن سليم ولا حجة فيه لضعفه ولو صح لكان حديث أبي هريرة ناسخا له، والعلماء مجمعون على القول بحديث أبي هريرة انتهى.
وذكر القاضي عياض أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع والعتيرة وكذا ذكر أبو بكر الحازمي أن حديث النهي ناسخ لأحاديث الإذن وذهب آخرون إلى استحباب الفرع والعتيرة".
وتبعه ابن بطال وقال بعد قوله وكان يروي فيها شيئا: لا يصح وأظنه حديث ابن عون عن أبي رملة عن مخنف بن سليم ولا حجة فيه لضعفه ولو صح لكان حديث أبي هريرة ناسخا له، والعلماء مجمعون على القول بحديث أبي هريرة انتهى.
وذكر القاضي عياض أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع والعتيرة وكذا ذكر أبو بكر الحازمي أن حديث النهي ناسخ لأحاديث الإذن وذهب آخرون إلى استحباب الفرع والعتيرة".
قال النووي: نص الشافعي في حرملة على أن الفرع
والعتيرة مستحبان ...ثم ذكر حديث نبيشة الهذلي.
وقال الحافظ:
"وجزم أبو عبيد بأن العتيرة تستحب وفي هذا تعقب على من قال: إن ابن سيرين
تفرد بذلك ونقل الطحاوي عن ابن عون أنه كان يفعله".
قلت: فالعلماء
مختلفون في الفرع والعتيرة، فمنهم من يقول بنسخ أحاديث الإباحة، ومنهم من يقول باستحباب
الفرع والعتيرة، ومنهم من يقول بالإباحة فقط، فإذا أردنا أن نقول بالنسخ فلا بد من
معرفة المتقدم من المتأخر وهو معدوم هنا، فالخروج من هذا يكون بتقديم الحاظر على
المبيح كما فعلنا في أحاديث استحباب صيام بعض الأيام إذا وافقت يوم السبت كما
تقدّم في هذا المبحث، وأما الذي يقول بالإباحة فأراه لم يوفّق في هذا لأن الذي
فهمناه مما تقدم أن الفرع، والعتيرة كان يفعلهما أهل الجاهلية في شيء مخصوص وزمن
مخصوص، فمن وافق فعله فعلهم فقد تشبه بهم، فإن ذبح أول ولد تلده الناقة هو الفرع،
والذبح في شهر رجب هذا هو العتيرة، فمن قصد الفرع والعتيرة على هذا التفسير فقد
وقع في المحظور، لأن الأصل في العبادات التوقيف إلا لنص، ولا يجوز لنا أن نتشبه
بفعل الجاهلية فــــ ( من تشبه بقوم فهو منهم ) كما في الحديث الذي رواه أبو داود
(4031)، وأحمد 2/ 50، وابن أبي شيبة 5/ 313 و 12/ 351، وحسّن إسناده الحافظ في
"الفتح" 10/ 271، والله الموفق.
المثال الثامن النهي عن الشرب قائما
"زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما".
أخرجه مسلم (2024) و (2025) من حديث أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري.
وأخرج مسلم (2026) من طريق أبي غطفان المري،
أنه سمع أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يشربن أحد منكم قائما، فمن نسي فَلْيَسْتَقِئْ ".
وأخرجه أحمد 2/
301، والدارمي (2128)، والبزار (8823)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"
(2102) من طريق شعبة، عن أبي زياد الطحان، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: عن النبي
صلى الله عليه وسلم: أنه رأى رجلا يشرب قائما، فقال له: " قه " قال:
لمه؟ قال: " أيسرك أن يشرب معك الهر؟ " قال: لا. قال: " فإنه قد
شرب معك من هو شر منه: الشيطان ".
فهذه الأحاديث صريحة في النهي عن الشرب قائما،
ولكن ثبت أيضا أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما، فعن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما، قال:
" سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم ".
" سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم ".
متفق
عليه.
وأخرج
الترمذي (1892)، وابن ماجه (3423)، وأحمد 6/ 434، والحميدي (357)، وابن حبان (5318)
من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدته كبشة قالت: "دخل عليّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم فشرب من فيّ قربة معلقة قائما فقمت إلى فيها فقطعته".
وزاد
ابن ماجه "تبتغي بركة موضع فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال الترمذي:
"هذا حديث حسن صحيح غريب".
وفي صحيح البخاري (5615) و (5616) " أن
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أُتي على باب الرحبة بماء فشرب قائما، فقال:
إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل
كما رأيتموني فعلت".
قال
الحافظ في "الفتح" 10/ 82:
"قال المازري: اختلف الناس في هذا فذهب
الجمهور إلى الجواز وكرهه قوم فقال بعض شيوخنا: لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه
بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا
قال: وأيضا فإن الأمر في حديث أبي هريرة بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم في أنه
ليس على أحد أن يستقيء، قال: وقال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة قال:
وتضمن حديث أنس الأكل أيضا ولا خلاف في جواز الأكل قائما، قال: والذي يظهر لي أن
أحاديث شربه قائما تدل على الجواز وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما
هو أولى وأكمل، أو لأن في الشرب قائما ضررا فأنكره من أجله، وفعله هو لأمنه قال:
وعلى هذا الثاني يحمل قوله ( فمن نسي فليستقيء ) على أن ذلك يحرك خلطا يكون القيء
دواءه ويؤيده قول النخعي إنما نهى عن ذلك لداء البطن انتهى ملخصا.
وقال
عياض: لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس،
ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد وهو معنعن وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا
يصرح فيه بالتحديث وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة
الأحاديث الأخرى والأئمة له، وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يحتمل
منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف انتهى ملخصا.
ووقع
للنووي ما ملخصه: هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا
باطلة وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها ولا وجه لإشاعة الغلطات، بل يذكر الصواب
ويشار إلى التحذير عن الغلط وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن
النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز، وأما من زعم نسخا أو
غيره فقد غلط، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وفعله صلى
الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا فإنه كان يفعل الشيء
للبيان مرة أو مرات ويواظب على الأفضل والأمر بالاستقاءة محمول على الاستحباب
فيستحب لمن شرب قائما أن يستقيء لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر
حمله على الوجوب حمل على الاستحباب، وأما قول عياض لا خلاف بين أهل العلم في أن من
شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته،
وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب
بالإجماع فهو مجازف وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات والدعاوى والترهات؟!
قال الحافظ: وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه وطريق الإنصاف أن لا تدفع حجة العالم بالصدر فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا وقد عنعنه، فيجاب عنه: بأنه صرح في نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس فإن فيه قلنا لأنس فالأكل، وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة لكن وثقه الطبري وابن حبان ومثل هذا يخرج في الشواهد ودعواه اضطرابه مردودة لأن لقتادة فيه إسنادين وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يخرج له مسلم في المتابعات وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح والله أعلم.
قال الحافظ: وليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى، وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه وطريق الإنصاف أن لا تدفع حجة العالم بالصدر فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا وقد عنعنه، فيجاب عنه: بأنه صرح في نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس فإن فيه قلنا لأنس فالأكل، وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة لكن وثقه الطبري وابن حبان ومثل هذا يخرج في الشواهد ودعواه اضطرابه مردودة لأن لقتادة فيه إسنادين وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يخرج له مسلم في المتابعات وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح والله أعلم.
قال
النووي وتبعه شيخنا في "شرح الترمذي" إن قوله (فمن نسي) لا مفهوم له بل
يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الأولى وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع
ذلك منه بعد النهي غالبا إلا نسيانا.
قلت:
وقد يطلق النسيان ويراد به الترك فيشمل السهو والعمد فكأنه قيل من ترك امتثال
الأمر وشرب قائما فليستقيء، وقال القرطبي في "المفهم": لم يصر أحد إلى
أن النهي فيه للتحريم وإن كان جاريا على أصول الظاهرية والقول به وتعقب بان ابن
حزم منهم جزم بالتحريم وتمسك من لم يقل بالتحريم بحديث علي المذكور في الباب وصحح
الترمذي من حديث ابن عمر (كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن
نمشي ونشرب ونحن قيام) ...".
قال
ابن حزم في "المحلى" 6/ 229:
"ولا يحل الشرب قائما، وأما الأكل قائما
فمباح -: لما روينا من طريق مسلم ابن الحجاج حدثنا هداب بن خالد، وقتيبة، وأبو بكر
بن أبي شيبة، ومحمد بن المثنى، قال هداب: حدثنا همام بن يحيى، وقال محمد بن
المثنى: حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، وقال قتيبة وابن أبي شيبة: حدثنا
وكيع عن هشام الدستوائي، ثم اتفق همام، وهشام، وسعيد، كلهم عن قتادة عن أنس: "أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرب قائما" ولفظ هداب "زجر عن
الشرب قائما".
وصح أيضا من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي صلى
الله عليه وسلم وهو قول أنس، وأبي هريرة، وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال: لم
أسمع. فإن قيل: قد صح عن علي، وابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائما".
قلنا: نعم، والأصل إباحة الشرب على كل حال من قيام، وقعود، واتكاء، واضطجاع، فلما
صح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما كان ذلك بلا شك ناسخا للإباحة
المتقدمة، ومحال مقطوع أن يعود المنسوخ ناسخا، ثم لا يبين النبي صلى الله عليه
وسلم ذلك، إذا كنا لا ندري ما يجب علينا مما لا يجب، وكان يكون الدين غير موثوق به،
ومعاذ الله من هذا، وأقل ما في هذا على أصول المخالفين أن لا يترك اليقين للظنون
وهم على يقين من نسخ الإباحة السالفة ولم يأت في الأكل نهي إلا عن أنس من قوله".
وقال الألباني في
"الصحيحة" 1/ 340 - بعد أن ذكر مذهب ابن حزم في تحريم الشرب قائما –:
"ولعل هذا هو الأقرب للصواب، فإن القول بالتنزيه
لا يساعد عليه لفظ
( زجر )، ولا الأمر بالاستقاء، لأنه أعني: الاستقاء
فيه مشقة شديدة على الإنسان، وما أعلم أن في الشريعة مثل هذا التكليف كجزاء لمن
تساهل بأمر مستحب! وكذلك قوله ( قد شرب معك الشيطان ) فيه تنفير شديد عن الشرب
قائما، وما إخال ذلك يقال في ترك مستحب.
وأحاديث الشرب قائما يمكن أن تحمل على العذر
كضيق المكان، أو كون القربة معلقة وفي بعض الأحاديث الإشارة إلى ذلك، والله أعلم".
تلخيص أحكام الحديث
وأخيرًا
نلخّص أحكام الحديث:
الأول: لا
يجوز صيام يوم السبت في النوافل كلِّها سواء ضُمَّ إليه يوم آخر، أو وافق صوما معتادا
كعرفة أو عاشوراء أو ست من شوال أو شهر شعبان إلى غير ذلك من صيام النَّافلة.
الثاني: جواز
صيام يوم السبت في الفروض: القضاء، والكفارات، والنذر.
الثالث: وجوب
صومه لمن صام يوم الجمعة، ولم يصم قبلها يوم الخميس.
هذا
آخر ما يسّر الله تعالى من الكلام على حديث آل بسر رضي الله عنهم من حيث الرواية والدراية،
فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فأسأل الله العفو والمغفرة.
وسبحانك
اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
كتبه
أحوج الناس لعفو ربه
أبو
سامي العبدان
حسن
التمام
15
- شوال - 1436 من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إرسال تعليق