حسن التمام  حسن التمام
random

الموضوعات

random
recent
جاري التحميل ...
recent

(1) شبهة أن فاعل المعصية لم يحكم بما أنزل الله

(1) شبهة أن فاعل المعصية لم يحكم بما أنزل الله

(1) شبهة أن فاعل المعصية لم يحكم بما أنزل الله


إنه لمن المعلوم لكل من يتابع حال الدعوة أن أكثر من يطلق عليهم اليوم أنهم دعاة للتوحيد يركّزون على شرك القباب والأولياء، ويهملون شرك التحكيم المنافي لتوحيد الله فيما هو من خصائصه سبحانه وتعالى وحقوقه على العباد بل إن بعضهم يزهّد في هذه المسألة العظيمة التي تهدم أركان الإسلام وتنقض عراه، فلا بدّ من بيان خطورة هذه المسألة التي هي من مهمات التوحيد، بل من أخطر صور الشرك في هذا العصر فإن التحاكم إلى غير شرع الله تعالى مع كونه شركا بالله تعالى هو أيضا ظلم وفسق، وهو شرك في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، وقد رأيت أحدهم يقول: إن الذي يحلق لحيته لم يحكم بما أنزل الله، وأن الحكم بغير ما أنزل لا يختص بالحكام فقط!!
هكذا أوحى إليه شيطانه فإنْ تعجب فعجب كل العجب، هكذا يلبّس الحق بالباطل والنور بالظلام، ويصدق فيه وفي أمثاله قوله تعالى {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، فالقوم بلغ بهم السفه واللعب بعقول من يستمعون إليهم هذا المبلغ، ويوجد من يصدقهم بهذا الكذب الفاضح، فهذا الشخص ممن يرغّب به الطواغيت فيدعونه ليلقي عندهم محاضرات دينية - زعموا - فهم يحبون هذا وأمثاله ممن نصب نفسه محاميا عنهم فيلقي الشبهات على السذّج والجهّال فيلبّس عليهم أمر دينهم في دورات (تضليلية) علمية زعموا!!، فهؤلاء الطواغيت يحبون دين المرجئة، فالرجل موظف عند حكومته ويأخذ أوامره منهم، ولا يقول إلا ما يسمح له به ولي نعمته، وإلا فقل لي - بربك - أي مقارنة بين عبد ارتكب معصية في خاصة نفسه، وبين طاغوت يحكم بين عباد الله بقوانين ودساتير مختلطة من كل لون يستبدل بها شريعة رب الأرباب بل إنه ينسخ ما رأى غيره أصلح منه بحسب عقله النتن أو مَنْ أطلق عليهم اسم (المشَرِّعين) أو (المجلس التشريعي)!!
فلا شك أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر، وكذا ترك الحكم بما أنزل الله كفر أكبر، وكذا تشريع أحكام وضعية وجعلها نظاما عاما يكون فاعله كافرا خارجا من ملة الإسلام، وأما الرد على شبهة هذا المرجئ، فجوابه:
إن نص الآية - أعني قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} - وإن كان من صيغ العموم، إلا أنها خاصة بالحكام الـمَعْنيين بالحكم بين الناس وفصل الخصومات (كالسلطان والقاضي وغيرهما)، فالآية عامة في موضوعها أو هي عامة في موضوع خاص وهو الحكم وفصل الخصومات، وحيث ورد لفظ (الحكم) - كواجب على الناس - في الكتاب والسنة، فإنه لا يُراد به إلا فصل الخصومات ولا يراد به جميع أعمال الإنسان، فإن الله تعالى قال {ومن لم يحكم بما أنزل الله} ولم يقل (ومن لم يعمل بما أنزل الله) وقال تعالى {وما كان ربك نسيّاً} [سورة مريم 64]، فتعميم لفظ (الحكم) على جميع أعمال الإنسان ليصبح كل من أذنب حاكما بغير ما أنزل الله هو من تحريف الكلم عن مواضعه.
وتشبيه مَن جعل مِن نفسه ندا لله تعالى بفاعل المعصية هو مذهب الخوارج، فلا وجه للشبه بين من يحكم بين العباد بغير شرع الله وبين فاعل المعصية، وأما دعواهم أنه إن اعتقد الحاكم بغير ما أنزل الله: أن حكم الله أفضل وأكمل وأنه لم يستبح هذا وأنه يعترف بذنبه وتقصيره وخطأه فهذا فاعلٌ لكبيرة!!
فالجواب أنه قد تقدّم من النصوص [1] أن الحكم بغير ما أنزل شرك بالله، فلا يقبل فيه أي عذر، وإن دعواه هذه لمن الكذب - أعني قوله: إن حكم الله أفضل وأكمل وأنه لم يستبح هذا وأنه يعترف بذنبه وتقصيره وخطأه - فإن الذي يضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله قد بدّل الشريعة، فهو كافر مشرك بالله لأنه لم يرغب بهذه القوانين عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنها خير للعباد والبلاد من شريعة الله!، قال الشيخ رشيد رضا كما في "فتاواه" 1/ 232-233:
"وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمنا مذعنا لدين الله، يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكما، ثم يغيره باختياره ويستبدل به حكما آخر بإرادته إعراضا عنه، وتفضيلا لغيره، ويعتدّ مع ذلك بإيمانه وإسلامه، والظاهر أن الواجب على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه مخالفا لحكم الله، ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ومشايعته فيه، فإن لم يقدروا فالدار لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر، وللأحكام فيها حكم آخر...".
وقال الشيخ عبد الرازق عفيفي:
"من كان منتسبا للإسلام، عالما بأحكامه، ثم وضع أحكاما، وهيأ لهم نظما، ليعملوا بها، ويتحاكموا إليها، وهو يعلم أنها تخالف أحكام الإسلام فهو كافر خارج من ملة الإسلام.
وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك، ومن أمر الناس بالتحاكم إلى تلك النظم والقوانين، أو حملهم على التحاكم إليها وهو يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام.
وكذا من يتولى الحكم بها، وطبقها في القضايا، ومن أطاعهم في التحاكم إليها باختياره، مع علمه بمخالفتها للإسلام.
فجميع هؤلاء شركاء في الإعراض عن حكم الله.
لكن بعضهم يضع تشريعا يضاهي به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه وبينه.
وبعضهم بالأمر بتطبيقه أو حمل الأمة على العمل به، أو وَلِيَ الحكم به بين الناس، أو نفَّذ الحكم بمقتضاه.
وبعضهم بطاعة الولاة، والرضا بما شرعوا لهم ما لم يأذن به الله ولم ينزل به سلطانا.
فكلهم قد اتبع هواه بغير هدى من الله، وصدَّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، وكانوا شركاء في الزيغ والإلحاد والكفر والطغيان، ولا ينفعهم علمهم بشرع الله واعتقادهم بما فيه مع إعراضهم عنه وتجافيهم لأحكامه بتشريع من عند أنفسهم، وتطبيقه والتحاكم إليه، كما لم ينفع إبليس علمه بالحق واعتقاده إياه، مع إعراضه عنه وعدم الاستسلام والانقياد إليه، وبهذا قد اتخذوا هواهم إلها..." [2].
ونقول لهذا الشخص هل التشريع وفق نصوص الدستور المعمول بها اليوم من تعطيل للحدود واستبدالها بعقوبات مالية أو سجن، ومن إباحة الربا وحمايته أهو كفر مجرّد؟! أم أنّه معصية كحلق اللحية؟! وهل الطاعة في التشريع عبادة وشرك أم هي معصية كحلق اللحية؟!
وتنبّه إلى أن بعض العلماء حينما يقولون إن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أصغر فإنهم يقصدون الحكام الجائرين المتهاونين كحكام بني أمية وبني العباس لا الحكام المبدّلين المشرّعين كحكام زماننا وشتان بين الفريقين!!
فالفرق بينهما كما بين الثرى والثرية، فالثاني كفر أكبر لم يختلفوا فيه وقد نقل أهل العلم الإجماع عليه، وأما الأول فهو الجور في الحكم وهو صورة من صور الحكم محتواها الجور والظلم في ترك تطبيق الحكم الشرعي ويكون هذا مع التزام أصل التشريع والحكم به ولا تعرض فيه لأي استبدال، وإن هذا الجور لا يتضمن بحال تغيير الأحكام الشرعية، وهذا الذي تجد فيه عبارات بعض العلماء أنه كفر دون كفر أو ظلم دون ظلم أو أنه فسق لا يخرج فاعله من ملة الإسلام، وليس هذا النوع من مقصود كتابنا هذا، فاحذر الـملبسين الذين يلبسون الحق بالباطل فإنهم ينقلون كلام العلماء في حكام الجور فينزلونها على الحاكم المبدّل للشريعة، وإن الواجب على المفتي أن يجيب الناس عن واقع الأمة، فإذا سُئل عن الحكم بغير ما أنزل الله فإن المقصود استبدال الشريعة كما هو واقع الأمة وليس المقصود الواقعة تكون للقاضي فيتبع هواه فيها، وهذا أمر مهم جدا، قال شيخ الإسلام في "منهاج السنة" 5/ 131:
"فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة".
فليست القضية اعترافا بشرع الله ثم بعد ذلك قد يخالف قاض في التطبيق لهوى أو رشوة أو قرابة، وإنما القضية تنحية لدين الله بتشريع قوانين ما أنزل الله بها من سلطان، بل إذعان الناس لها، وإن منهم من يحارب لحمايتها وينكّل ويحبس ويضرب من يعارضها أو يعارض شيئا من هذه القوانين الوضعية القذرة!!
فالذي يفتي ويتكلم فعليه أن يتكلم عن الواقع الذي نعيشه اليوم من شرك حكام هذا الزمان من إحداث تشريعات تخالف شرع الله ومن استبدال لشرع الله تعالى، وما هو حكم من أطاعهم على هذا الشرك؟، ولا يلبّس على الناس دينهم، فيذهب يفصّل في مسألة الحكم بالتفصيل المعروف عند أهل إرجاء هذا العصر، قال ابن حزم في "الإحكام" 2/ 144:
"وأما من ظن أن أحدا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويحدث شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فقد كفر وأشرك وحل دمه وماله ولحق بعبدة الأوثان".
وقال في موضع آخر 6/ 117:
"-ومن - أجاز لأحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر وحل دمه وماله".
وقال ابن عبد البر في "التمهيد" 4/ 226:
"وقد أجمع العلماء أن من سبّ الله عز وجل أو سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا أنزله الله أو قتل نبيا من أنبياء الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر".
وتنبّه لقول ابن عبد البر (وهو مقر بما أنزل الله)، ونحوه قول ابن القيم في "الصلاة وأحكام تاركها" (ص 61):
"وإذا حكم بغير ما أنزل الله أو فعل ما سماه رسول الله كفرا وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام".
هذا قاله بعد أن تكلّم عن الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل وأن منه ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها، وقد نقل الإجماع عليه أيضا الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 13/ 119، فقال:
"فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا [3] وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]".
قال أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" 2/ 268 - عند قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} -:
"وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان".
وقال ابن حزم في "الإحكام" 5/ 173:
"لا خلاف بين اثنين من المسلمين .... أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأتِ بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 35/ 200:
"نُسَخُ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر".
وقال ابن القيم في "أحكام أهل الذمة" 1/ 533:
"وقد جاء القرآن وصحَّ الإجماع بأنَّ دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر، وقد أبطل الله كلَّ شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام، فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام".
فإذا كان من اتبع التوراة أو الإنجيل عند ابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم كافرًا، فكيف بمن اتبع القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر وحثالة عقولهم؟!
وقال الشوكاني بعد كلام له في كفر من يتحاكم إلى غير شريعة الله في رسالته "دفع الصائل" (ص 12) مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية الجزء الثاني: "ولا شك ولا ريب أن هذا كفر بالله سبحانه وتعالى، وبشريعته التي أمر على لسان رسوله، واختارها لعباده في كتابه وعلى لسان رسوله، بل كفروا بجميع الشرائع من عند آدم عليه السلام إلى الآن، وهؤلاء جهادهم واجب وقتالهم متعين حتى يقبلوا أحكام الإسلام ويذعنوا لها ويحكموا بينهم بالشريعة المطهرة ويخرجوا من جميع ما هم فيه من الطواغيت الشيطانية ...".
وقال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 510:
"كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين - وإن تكلمت بالشهادتين - فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس، وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة، وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان، أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء، والأموال والأعراض، والأبضاع، ونحوها بحكم الكتاب والسنة، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في "رسالة تحكيم القوانين" (ص 7):
"من أعظم ذلك وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله: إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي، كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني أو غيرها من مذاهب الكفار، وأي كفر فوق هذا الكفر؟! وأي مناقضة للشهادة بأن محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة؟!".
وقال ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين" 2/ 261 - 263:
"إن الذين يحكّمون القوانين الآن، ويتركون وراءهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما هم بمؤمنين، ليسوا بمؤمنين، لقول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}، ولقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، وهؤلاء الْمُحكِّمون للقوانين لا يحكمونها في قضية معينة خالفوا فيها الكتاب والسنة، لهوى أو لظلم، ولكنهم استبدلوا الدين بهذا القانون، وجعلوا هذا القانون يحل محل شريعة الله وهذا كفر حتى لو صلوا وصاموا وتصدقوا وحجوا، فهم كفار ما داموا عدلوا عن حكم الله - وهم يعلمون بحكم الله - وإلى هذه القوانين المخالفة لحكم الله {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}، فلا تستغرب إذا قلنا: إن من استبدل شريعة الله بغيرها من القوانين فإنه يكفر ولو صام وصلى، لأن الكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله، فالشرع لا يتبعض، إما تؤمن به جميعا، وإما أن تكفر به جميعا، وإذا آمنت ببعض كفرت ببعض، فأنت كافر بالجميع، لأن حالك تقول: إنك لا تؤمن إلا بما لا يخالف هواك، وأما ما خالف هواك فلا تؤمن به، هذا هو الكفر، فأنت بذلك اتبعت الهوى، واتخذت هواك إلها من دون الله.
فالحاصل أن المسألة خطيرة جدا، من أخطر ما يكون بالنسبة لحكام المسلمين اليوم، فإنهم قد وضعوا قوانين تخالف الشريعة وهم يعرفون الشريعة، ولكن وضعوها - والعياذ بالله - تبعا لأعداء الله من الكفرة الذين سنوا هذه القوانين ومشى الناس عليها، والعجب أنه لقصور علم هؤلاء وضعف دينهم، أنهم يعلمون أن واضع القانون هو فلان بن فلان من الكفار، في عصر قد اختلفت العصور عنه من مئات السنين، ثم هو في مكان يختلف عن مكان الأمة الإسلامية، ثم هو في شعب يختلف عن شعوب الأمة الإسلامية، ومع ذلك يفرضون هذه القوانين على الأمة الإسلامية، ولا يرجعون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين الإسلام؟! وأين الإيمان؟! وأين التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول إلى الناس كافة؟ وأين التصديق بعموم رسالته وأنها عامة في كل شيء؟!
كثير من الجهلة يظنون أن الشريعة خاصة بالعبادة التي بينك وبين الله عز وجل فقط، أو في الأحوال الشخصية من نكاح وميراث وشبهه، ولكنهم أخطئوا في هذا الظن، فالشريعة عامة في كل شيء، وإذا شئت أن يتبين لك هذا، فاسأل ما هي أطول آية في كتاب الله؟ سيقال لك إن أطول آية هي: آية الدين: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ....} [البقرة: 282] كلها في المعاملات، فكيف نقول إن الشرع الإسلامي خاص بالعبادة أو بالأحوال الشخصية؟!، هذا جهل وضلال، إن كان عن عمد فهو ضلال واستكبار، وإن كان عن جهل فهو قصور، والواجب أن يتعلم الإنسان ويعرف، نسأل الله لنا ولهم الهداية".
والسبب الذي يجعلني أنقل كلام أهل العلم بهذه الكثرة حتى تتضّح الرؤيا للأعشى، ويفيق النائم، ويتفكر العاقل وحتى نُعذر عند الله، فإن العلمانيين والليبراليين اتّخذوا من أقاويل مرجئة هذا العصر [4] مطية لهم وإلا فكان يكفي نقل الأدلة وشيء من كلام أهل العلم لكن الهجمة شرسة من جهمية ومرجئة هذا العصر، فقد وضعوا شبهات هي أوهى من بيت العنكبوت مع بتر كلام بعض أهل العلم مع ليّ أعناق النصوص مع الإعراض عن المحكم، واتباع المتشابه حتى يتوافق مع مذهبهم الخبيث لكنها لا تنطلي إلا على العميان، أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما إنه جواد كريم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
____________________________________
[1] - أعني بذلك ما جاء في كتابي "شرك التحكيم".

[2] - رسالة "الحكم بغير ما أنزل الله" مطبوعة بذيل كتاب "شبهات حول السنة" (ص 64-65).

[3] -  الياسا أو الياسق: كتاب وضعه جنكز خان المغولي من مصادر متعددة، وذكر الجويني شيئا من أحكامه، منها أن من زنا قتل، محصنا كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، ومن وجد هاربا ولم يرده قتل، ومن أطعم أسيرا أو رمى إلى أحد شيئا من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده، ومن أطعم أحدا شيئا فليأكل منه أولا ولو كان المطعوم أميرا لا أسيرا، ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل، ومن ذبح حيوانا ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولا".
قال العلّامة أحمد شاكر في تعليقه على "عمدة التفسير" 1/ 696:
 "أفيجوز مع هذا في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربا الوثنية الملحدة، بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيرونه ويبدلونه كما يشاؤون، لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها؟! إن المسلمين لم يُبلَوا بهذا قط - فيما نعلم من تاريخهم - إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلامُ التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيء الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره.
أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير - في القرن الثامن - لذلك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر، إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفا، أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعا، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت.
ثم كان المسلمون أسوأ حالا، وأشد ظلما وظلاما منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذاك الياسق الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناسٌ ينتسبون للإسلام، ثم يتعلمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً، ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا الياسق العصري!! ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم رجعيا، وجامدا! إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى ياسقهم الجديد، بالهوينا واللين تارةً، وبالمكر والخديعة تارةً، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرحون - ولا يستحيون - بأنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!!
أفيجوز إذن - مع هذا - لأحدٍ من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد؟!
أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، عالما كان الأب أو جاهلاً؟!
يقول: أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا: الياسق العصري، وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟!
ما أظن أن رجلا مسلما يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلا، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم كتابا محكما، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به؟ واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول؛ بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلانا أصليا، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة!
إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحدٍ ممن ينتسب للإسلام - كائناً من كان - في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه، ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين، سيقول عني عبيد هذا الياسق العصري وناصروه، أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاؤوا فما عبأت يوما ما بما يُقال عني ولكن قلت ما يجب أن أقول".
قلت: رحمك الله تعالى بل سيقول من يدّعي السلفية أنك تكفيريٌ خارجي!!، فاللهم رحماك، فقد اختلط الصالح بالطالح، والصادق بالكاذب، والتبست الأمور على مَن لا علم عنده، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

[4] - المرجئة ثلاثة أصناف:
الأول: صنف قالوا بالإرجاء في الإيمان وبالقدر على مذاهب القدرية والمعتزلة.
والثاني: صنف قالوا بالإرجاء في الإيمان وبالجبر في الأعمال على مذهب الجهمية.
والثالث: صنف خارجون عن الجبرية والقدرية، وهم فرق: اليونسية، الغسانية، الثوبانية، التومنية والمريسية.
وإنما سموا مرجئة لأنهم أخّروا العمل عن الإيمان، فالإرجاء معناه التأخير، يقال: أرجيته، وأرجأته، إذا أخرته.
والمرجئة في باب الإيمان ثلاثة أقسام:
الأول: غلاة المرجئة (المرجئة المتكلمون)، والإيمان عندهم مجرد التصديق بالقلب وعلمه، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان.
والثاني: الكرامية، والإيمان عندهم مجرد قول اللسان.
والثالث: مرجئة الفقهاء، الإيمان عندهم تصديق القلب، وقول اللسان، والأعمال ليست منه.
ومرجئة العصر يلتقون مع هؤلاء حذو القذة بالقذة، وإن كانوا يقولون: الأعمال من الإيمان، فقولهم هذا كالديكور، فهم من حيث النتيجة لا من حيث أصل القول يلتقون مع مرجئة الفقهاء، فهم يفرقون بين الإيمان وبين العمل فيجعلون العمل شرط كمال في الإيمان ولم يجعلوه شرط صحة في الإيمان، فلو لم يعمل أي عمل فهو عندهم يكون من الناجين يوم القيامة!!
وإن ذم أئمة السلف للإرجاء وأهله كثير، ومع كل هذا الذم الْمبثوث والمعروف في كتب السنة والعقائد فإننا نجد هذا الداء العضال لا زال مستشريا في هذه الأمة، فنجد
منهم اليوم أسوأ خلفٍ لهم، فقد لبّسوا الحق بالضلال والنور بالظلام وسوّغوا الشرك وهوّنوا الكفر، فإذا تصدى لهم أهل الحق وبيّنوا ضلالهم.
قال مرجئة هذا العصر مدافعين عن مذهبهم الخبيث: هذا هو مذهب سلف الأمة!!
ومن أنكر عليهم فهو خارجي تكفيري ونحوه من هذه الألفاظ التي تدل على كذبهم وإفلاسهم وأن بضاعتهم مزجاة، وبعضهم يظن أنه على الحق ولا يدري أنه غارق في
الضلال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في "مجموع الفتاوى" 7/ 364:
"وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية، لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان وهو معظم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف".
وقال أيضا 7/ 143:
"وأمثالهم لم يكونوا خبيرين بكلام السلف بل ينصرون ما يظهر من أقوالهم بما تلقوه عن المتكلمين من الجهمية ونحوهم من أهل البدع فيبقى الظاهر قول السلف والباطن قول الجهمية الذين هم أفسد الناس مقالة في الإيمان".
وإن السلاطين يحبون دين المرجئة، فقد روى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 33/ 286 بإسناده عن سليمان بن سلم، قال: سمعت النضر بن شميل: يقول:
"دخلت على المأمون، قال لي: كيف أصبحت يا نضر؟ قال: قلت بخير يا أمير المؤمنين. قال: أتدري ما الإرجاء؟ قلت: دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقص من دينهم. قال لي: صدقت".
ولهذا تجد انتشاره واسعا في البلدان، ودعاته لهم الشهرة الواسعة فتطبع كتبهم وأشرطتهم بأعداد كبيرة ولها رواج كبير بين العوام، وتجدهم في الفضائيات والمنتديات والمجالس وأينما تذهب وتحل تجدهم هم المبرّزون، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

إرسال تعليق

التعليقات



المتابعون

جميع الحقوق محفوظة لـ

حسن التمام

2015