
(2) تضليل المجتمع بجعل شرك التحكيم ضمن المعاصي
يجب التنبّه إلى أمر خطير فإن المذهب
المنتشر والسائد والرسمي لجميع الحكومات هو الإرجاء، وأكثر الناس لا تعرف إلا هذا
المذهب الضال المنحرف عن شريعة الله تعالى، لأن الحكومات تريد من يرقّع لها باطلها
فتقدّم مشايخ السوء فينظّرون لها ويدفعون عنها هذا الكفر بحجج ما أنزل الله بها من
سلطان، وإن بعض هؤلاء المشايخ ممن يذم الإرجاء لكنه عند التطبيق في فتاواه تجده
مرجئا، فإذا سئل عن الحكم بغير ما أنزل الله يكون جوابه كالتالي:
(إن كان يعتقد
أن حكم الله لا يصلح، وأن حكم غيره هو الذي يصلح للناس.
أو أنه مخير إن شاء حكم بما أنزل الله، وإن شاء حكم بغير ما أنزل الله يعني استباح، هذا الشيء هذا كافر.
أو أنه مخير إن شاء حكم بما أنزل الله، وإن شاء حكم بغير ما أنزل الله يعني استباح، هذا الشيء هذا كافر.
والحالة الثالثة:
أنه إذا اعتقد أن حكم الله هو الواجب، وأنه مخطئ في تحكيمه بغير ما أنزل الله،
ولكنه فعل هذا إما لشهوة في نفسه، ورغبة ينالها في هذه الدنيا، فهذا كفر دون كفر،
لأنه لم يستبح تحكيم غير ما أنزل الله!!).
هكذا يكون
جوابهم التضليلي، فإن الناس تستفتيهم عن ما يفعله حكام هذا الزمان من استبدال
للشريعة [1] بهذه القوانين الوضعية المعمول بها اليوم في عموم بلاد المسلمين فيجيب بهذا الجواب الذي
لا تستطيع أن تخرج منه إلا بنتيجة واحدة ألا وهي أن هذا هو الارجاء بعينه، لأنه
ذهب يتكلم عن الاستحلال، وكان الواجب عليه أن يجيب عن الفعل ولا شأن له بما يعتقد
هذا الحاكم في قلبه، فلو أن إنسانا شتم نبيا من الأنبياء فلا نحتاج أن نقول هل
استباح هذا أم لا؟! ولو قال أنا أعتقد أن الحكم بالقانون الوضعي باطل، فهذا لا
قيمة له، ما دام أنه يحكم بالقوانين الوضعية، كما لو قال: أنا أعبد الأوثان،
وأعتقد أنها باطلة.
وإن الله لم يكلفنا أن نشق عن صدور الناس،
وإنما نحكم عليهم بما ظهر لنا منهم، فهذا الحاكم قد استبدل الشريعة فعطّل الحدود
وأباح الربا والخمور والزنا بإعطاء التراخيص لأصحابها، وجعل قانونا يحمي به هذا
التشريع فهل يوجد كفر أكبر من هذا؟!
على أن ما جاء في الحالة الثالثة لا شأن له
بهذه المسألة مطلقا لأنه متعلق بالقضايا التركية، ولا شأن لها بالتشريع لا من قريب
ولا من بعيد، فالعلماء حينما قالوا ما جاء في الحالة الثالثة قالوه في الجور والظلم في ترك تطبيق الحكم الشرعي ويكون هذا مع
التزام أصل التشريع والحكم به ولا تعرض فيه لأي استبدال، وإن هذا الجور لا يتضمن
بحال تغيير الأحكام الشرعية، وقد تقدّم شيء من
هذا مع نقل كلام العلماء المعتبرين المدعّم بالبراهين الساطعة، فإن قيل: إن
أهل السنة يقولون: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه؟!
فأقول: المقصود بالذنب: المعاصي، وكل ما كان دون الشرك
أو الكفر الأكبر، فإن الكبائر من المعاصي لا تخرج المسلم من الملة ما لم يستحلها.
وأما من أشرك أو قال القول
المكفر أو عمل مكفرا من غير إكراه فإنه يكفر ولو لم يكن معتقدا هذا القول أو الفعل
بقلبه.
فالذي يشرك بالله أو يسب
الدين أو يسجد لصنم ما لم يكن مكرها - على ضوابط وشروط الإكراه المعروفة عند أهل
العلم - فإنه يكون كافرا بهذا حتى وإن قال: أنا غير مستحل لهذا.
وهذا الذي يشرّع قوانين من
عند نفسه أو يأخذها عن غيره من أهل الضلال كالذي يجعل عقوبة السارق أو الزاني:
السجن ونحوه مما لم يشرعه الله تعالى، فهذا مشرك، وإن صرّح، وقال: إنّ حكم الله
أفضل فهو مشرك كافر بالله، لأنه يستحيل أن يعتقد أن حكم الله أفضل ثم يعدل إلى
غيره، ففعله يدل على أنه كاذب، فلا يتصور أن شخصا يعتقد الأفضلية في شيء ثم يذهب
إلى غيره، وهؤلاء المشرّعون جعلوا من أنفسهم أندادا لله عز وجل، وإن النبي صلى
الله عليه وسلم حين قال له رجلٌ: ما شاء الله وشئت، أنكر عليه النبي صلى الله عليه
وسلم هذا العطف بقوله: "أجعلتني لله ندا؟!"، فكيف بهؤلاء الذين هم دون
رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكمون بما يشاؤون غير ملتفتين إلى حكم الله تعالى،
والله يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ
بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، والدين يشمل الحكم، قال تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ
أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]،
فقوله تعالى: (فِي دِين الْمَلِك) أي: حُكْم مَلِك مِصْر لِأَنَّ جَزَاءَه عنده
الضَّرْب وتغرِيم مِثْلَيْ الْمَسْرُوق لا الاسْتِرْقَاق، ولهذا جعل الحكم إليهم،
ليتم له ما يريد من أخذ أخاه، فقالوا: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ
فَهُوَ} أي: الموجود في رحله {جَزَاؤُهُ} بأن يتملكه صاحب السرقة، وكان
هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب المال المسروق.
_______________________________________
[1] - قال ابن عثيمين في "شرح الأصول الثلاثة" (ص 159):
"هناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعا عاما
والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله، لأن المسائل لا يتأتى فيها
التقسيم السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط، لأن هذا المشرع تشريعا يخالف الإسلام
إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد".
إرسال تعليق