بسم الله الرحمن الرحيم
{الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير}، وصلى الله تعالى على نبينا محمد القائل:
"التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
أخرجه ابن ماجه (4250)، والطبراني (10281)، وأبو نعيم في "الحلية " 4/ 210 ، وغيرهم ، وقال الحافظ في الفتح 13/ 471 :
"سنده حسن ".
فالعبد إذا أذنب ذنبا ثم تاب منه توبة نصوحا وأقلع عنه وندم واستغفر ولم يعد إليه تاب الله عليه، وعامله معاملة من لم يذنب، بل وبدل سيئاته حسنات ، وأحبه وجعله من عباده المتقين ؛ لأنه إنما تاب إلى ربه وأناب لمحبته لله وحرصه على رضاه وخوفه منه ، وتلك صفات المتقين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "شرح العمدة" 4/ 39 :
" التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا زال الذنب زالت عقوباته وموجباته " .
وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين" (ص: 231):
" فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا محي أثر الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه فكأَنه لم يكن " .
ومَنْ يسلم من الوقوع بالذنب إلا مَنْ عصمه الله تعالى ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "كل بنى آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
أخرجه الترمذي ( 2499 ) ، وابن ماجه ( 4251 ) ، وأحمد 3/ 198 ،
والحاكم 4/ 244 وصححه .
فليس العيب أن يخطئ المسلم ولكن العيب والهَلكة الإستمرار على الخطئ فإذا ذُكِّر لا يتذكر وإذا نُصح لم يقبل النصيحة ، وإن التوبة من الذنب فضيلة ومزية ترفع من شأن التائب عند أهل الإسلام ، وقد أثنى الله تعالى في كتابه على التوابين ، وأخبر أنه يحبهم ، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب ما يحبه الله تعالى ، فكذلك ينبغي لأهل محبة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحبوا ما يحبه الله ورسوله ، يحبون التائب لأن التائب حبيب الله ، وأنه خرج من ذنوبه فأصبح كمن لا ذنب له ، وإن لسان حال هذا الذي يعيّر أخاه بذنبه الذي تاب منه أن الله لا يغفره له وهذا هو التألي على الله تعالى ، ففي صحيح مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حَدّث أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال:
من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عمللك".
وإن تعيير المسلم بذنبه الذي تاب منه له لوازم ، فإن من لوازمه أن يعيّر صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - والعياذ بالله- بأنهم كانوا مشركين ، وهذا قبحه ظاهر بيّن لا يخفى على من أعطي بصارة عين واحدة فضلا عن بصارة العينين فهل يبقى وصف الشرك لازما لهم إلى قيام الساعة، وهل يبقى الذنب الذي تيب منه وصمة عار في جبين المسلم أبد الآبدين ، لا والله هذا لا يقوله أحد ولا يختلف على قبحه اثنان ، وقد تقدّم حديث "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ، وقد ثبت في الصحيحين حديث محاجة ومخاصمة موسى وآدم عليهما السلام، وكانت بداية الخصومة من موسى - وهذا مما يؤخذ ضمن الشواهد هنا - فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حاج موسى آدم فقال له أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم قال: قال: آدم يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره علي قبل أن يخلقني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى " اللفظ للبخاري ، وفي لفظ لمسلم " احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق، قال موسى: بأربعين عاما، قال آدم: فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى، قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى".
قال الشيخ ابن عثيمين كما في " مجموع فتاواه ورسائله" 3/ 211:
"هذا ليس احتجاجا بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد، لكنه احتجاج بالقدر على المصيبة الناتجة من فعله، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، ولهذا قال: "خيبتنا وأخرجتنا، ونفسك من الجنة"، ولم يقل: عصيت ربك فأخرجت من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على الخروج من الجنة الذي يعتبره مصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به، أرأيت لو أنك سافرت سفراً وحصل لك حادث، وقال لك إنسان: لماذا تسافر لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء؟!! فستجيبه: بأن هذا قضاء الله وقدره، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث، وإنما خرجت لمصلحة، فأصبت بالحادث، كذلك آدم عليه الصلاة والسلام، هل عصى الله لأجل أن يخرجه من الجنة؟ لا.
فالمصيبة إذاً التي حصلت له مجرد قضاء وقدر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجاً صحيحاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حج آدم موسى، حج آدم موسى"، وفي رواية للإمام أحمد: "فحجه آدم" يعني غلبه في الحجة.
مثال آخر: رجل أصاب ذنباً وندم على هذا الذنب وتاب منه، وجاء رجل من إخوانه يقول: له يا فلان كيف يقع منك هذا الشيء؟ فقال: هذا قضاء الله وقدره. فهل يصح احتجاجه هذا أولا؟
نعم يصح لأنه تاب، فهو لم يحتج بالقدر ليمضي في معصيته، لكنه نادم ومتأسف، ونظير ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل ليلة على علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما، فقال:
"ألا تصليان؟" فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله، فإن شاء الله أن يبعثنا بعثنا، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم يضرب على فخذه، وهو يقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل حجته، وبيّن أن هذا من الجدل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الأنفس بيد الله، لكن يريد أن يكون الإنسان حازماً فيحرص على أن يقوم ويصلي.
على كل حال تبين لنا أن الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريراً لموقف الإنسان واستمراراً فيها فغير جائز".
وإن الذي يعيّر أخاه المسلم بذنب تاب منه على خطر عظيم فقد روى الترمذي (2505) وحسنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
"من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله".
قال أحمد: قالوا: "من ذنب قد تاب منه".
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" 1/ 194 :
" ففي التعيير ضرب خفي من الشماتة بالمعير، وفي الترمذي أيضا مرفوعا: (لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك)".
ويحتمل أن يريد: أن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به، ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذلة والخضوع، والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى، والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب أنفع له، وخير من صولة طاعتك، وتكثرك بها والاعتداد بها، والمنة على الله وخلقه بها، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله! وما أقرب هذا المدل من مقت الله، فذنب تذل به لديه، أحب إليه من طاعة تدل بها عليه، وإنك أن تبيت نائما وتصبح نادما، خير من أن تبيت قائما وتصبح معجبا، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مدل، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو فيك ولا تشعر.
فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو، ولا يطالعها إلا أهل البصائر، فيعرفون منها بقدر ما تناله معارف البشر، ووراء ذلك ما لا يطلع عليه الكرام الكاتبون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا زنت أمة أحدكم، فليقم عليها الحد ولا يثرب) أي لا يعير، من قول يوسف عليه السلام لإخوته {لا تثريب عليكم اليوم} [يوسف: 92] فإن الميزان بيد الله، والحكم لله، فالسوط الذي ضرب به هذا العاصي بيد مقلب القلوب، والقصد إقامة الحد لا التعيير والتثريب، ولا يأمن كرات القدر وسطوته إلا أهل الجهل بالله، وقد قال الله تعالى لأعلم الخلق به، وأقربهم إليه وسيلة {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} [الإسراء: 74] وقال يوسف الصديق {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} [يوسف: 33] وكانت عامة يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا، ومقلب القلوب) وقال: (ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه) ثم قال: (اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)".
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
" وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك ، فلا تسبه بما تعلم فيه ، فإن أجره لك ، ووباله على من قاله ".
أخرجه أحمد 5/ 63 ، وغيره ، وسنده صحيح .
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
كتبه أحوج الناس لعفو ربه
أبو سامي العبدان
حسن التمام
بعد صلاة الجمعة الساعة الثانية والنصف، بتاريخ 16 من جمادي الآخر 1437 من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم